رحل الفنان التشكيلى الرائع محمد حجى وخسرت مصر فنانا متفردا له مساهمات رفيعة القيمة فى الرسم الصحفى وفن التصوير فضلا عن خبراته المتميزة فى مجال التصميم الجرافيكى ومن حسن حظى أننى التقيت به وتعرفت عليه فى بداية عملى الصحفى قبل أكثر من عشرين عاما.
وقد ساعدتنى فى ترتيب أول موعد معه السيدة سلوى المغربى صاحبة (خان مغربى) بالزمالك، وهى واحدة من أصحاب الفضل الذين ساعدونى فى بداية حياتى كثيرا على تذوق هذا الفن والتعرف على الكثير من التشكيليين من أعمار مختلفة.
وكانت سلوى على صداقة قديمة بالفنان منذ أن كانت تعمل معه فى الصحافة، وأول ما أوصتنى به هو أن أذهب إليه فى الموعد تماما لأنه رجل (دوغرى مالوش فى الحال المايل)، وقالت لى إنه يمتلك قناعات قومية وله التزامه بالقضايا السياسية العروبية وعلى رأسها قضية فلسطين لذلك لن يتوقف أبدا عن سرد ذكرياته مع رجالها الذين عرفهم بشكل جيد خلال إقامته فى تونس لكنها استدركت وقالت: (حجى لطيف قوى).
ذهبت فى الموعد تماما وفى ذهنى رسومه التى كانت تنشرها مجلة (نصف الدنيا) خلال عصرها الذهبى تحت رئاسة تحرير الأستاذة سناء البيسى وكانت تلك الرسوم تصاحب أعمال نجيب محفوظ وعلى رأسها (أحلام فترة النقاهة) التى رسمها حجى بخيال طليق لا مثيل له.
كانت طريقة الرسم والإخراج الفنى المصاحب للنصوص تكشف عن مزاج نادر فى الصحافة وقد علمت بعدها أن الاستاذة سناء وهى أيضا فنانة كبيرة كانت تشرف بنفسها على تجهيز الصفحات وإخراجها بتلك الصورة الفريدة.
حين دخلت بيت حجى الجميل الكائن أمام المركز الثقافى الروسى، كان يرتدى جلبابا فلاحيا مريحا، ولما صافحنى بقوة شعرت أن له نفس اليد الخشنة التى كانت للفنان جودة خليفة، وحين أخبرته بذلك ظل يضحك ويقول لى «يخرب عقلك هو فى زى جودة، دا وحش».
بسرعة تدفق حجى فى الحديث عن سنوات الستينيات والمناخ الذى غمره حين دخل الصحافة وعالمها فى روزاليوسف والرعاية التى وجدها من بيكار ومن حسن فؤاد وصلاح جاهين وحجازى والليثى والبهجورى وإيهاب شاكر، وكامل زهيرى، ومع كل حكاية ينظر لى ويبتسم قائلا: «دول مش بنى آدميين يا جدع، دول أساطير».
شعرت أننى أعرفه منذ زمن طويل، فقد كانت مودته صادقة واستقباله الحار يكسر المسافات وتتراجع أمامه جميع الحواجز.
أكثر ما لفت نظرى خلال جلستنا التى طالت أكثر من اللازم أنه طاف بى مختلف أركان البيت وفرجنى عليه حتة حتة كأنى سأشتريه، وقفنا فى المطبخ وأعد لى أكثر من دور شاى وفرجنى على ما لديه من أعشاب وأنواع نادرة من القهوة والشاى حتى أننى شعرت أحيانا كأننى فى مطعم من المطاعم اليابانية المخصصة لتلك الأنواع النادرة والتى لا أعرفها طبعا.
وحين انتقلنا للمكتب والمرسم شاهدت مجموعة كبيرة من الدواوين الشعرية وكتب الفن والموسوعات التى جمعها من بلدان العالم، وظل حجى يقلب فى الدواوين وفى اللوحات والاسكتشات التى كان فردها أمامى وأدركت طاقتها التعبيرية الهائلة ويشرح لى كيف يعمل على تجهيزها للطباعة، حكى عن السنوات التى أمضاها فى الصحافة والسنوات التى اضطر فيها لمغادرة مصر والعمل خارجها فى الجامعة العربية.
وأهدانى نسخا من كتابه البديع (شمال يمين) ثم سألنى عن الأوضاع داخل الأهرام ونبهنى إلى تجربته القصيرة فى العمل مع الاستاذ لطفى الخولى فى مجلة الطليعة إلى أن تم إغلاقها وقال لى (جابوا ضرفها ولاد الإيه).
كانت المرة الأولى ربما التى أدخل فيها مرسم فنان لذلك سحرتنى التجربة تماما وحرصت على تكرارها مرارا وفى الزيارة الثانية ذهبت مع صديقى المصور الفنان عماد عبدالهادى وهو صديق قديم لحجى ومصدر من مصادر ثقته فى توثيق أعماله وطوال الجلسة يقول لى (عماد بلدياتى من المنصورة على فكرة علشان كده فنان).
يعتز حجى كثيرا بأصوله فى (سندوب/ دقهلية) ويفخر بالخيال الشعبى الذى ظل يحمله فى قلبه منها وفى جلساتنا التى توالت بعدها كان حريصا على ان يستمع لى ولرأيى فى أعماله وكانت فرحته كبيرة حين استعاد لياقته الصحفية ورسم غلاف العدد الأول من مجلة (الكتب، وجهات نظر) وبعض رسومه الداخلية، اتصل بى قبل صدور العدد بساعات وقال لى (لما المجلة تنزل الشارع تبلغنى رأيك على طول ولو وحش قل لى، مش هيجرا حاجة).
وذات مرة وجدته فى ندوة بالجامعة الأمريكية حاضر فيها المفكر الراحل نصر حامد أبوزيد عن الفن وخطاب التحريم وخرجنا بعدها، جلسنا على مقهى فى باب اللوق وتحدثنا مطولا عن كتابه الممنوع (فنان يقرأ القرآن) وقال لى إن من وقفوا ضد إصداره وتداوله داخل مؤسسة الأزهر أضروا بالفن الإسلامى ضررا كبيرا ووصف الكتاب بأنه شكل من أشكال التسبيح وقرأ لى فقرات من المقدمة المهمة التى كتبها الدكتور ثروت عكاشة للكتاب حين اعتبر أن الكتاب هو صورة من صور التفاعل مع النص القرآنى وطريقة من طرق تأويله، تمنى حجى ليلتها لو أعاد رجال الأزهر النظر فى فرص تداول الكتاب ولذلك أتمنى من قلبى أن تصل أمنيته، وهو فى دار الحق لصاحب الفضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب بحيث يسمح بإعادة النظر فى الموقف الرافض للكتاب، لعل وعسى.