نشرت جريدة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتب العراقى وليد خدورى، يوضح فيه كيف أن اختلاف التوجهات السياسية لكل دولة (مثل شعار «أمريكا أولا» ودعم الوقود الأحفورى فى الولايات المتحدة، و«التحول الأخضر» فى الصين، ومعضلة الاعتماد على الطاقة الروسية والنووية فى أوروبا، واستيراد النفط الروسى الرخيص فى الهند) يرتبط بشكل مباشر بالتغيرات الجيوسياسية، وتؤدى هذه التغيرات إلى تحولات فى مشهد الطاقة العالمى.. نعرض من المقال ما يلى:
تشهد العلاقات الدولية وموازين القوى بين الدول تغييرات مهمة حاليا تتمثل فى اختلال العلاقات السياسية والأمنية بين كل من الولايات المتحدة وأقطار السوق الأوروبية المشتركة، كذلك العلاقات الجيوسياسية بين روسيا وأوروبا، وسياسات التعرفة الجمركية الجديدة التى شهرتها الولايات المتحدة فى وجه كلٍّ من حلفائها وخصومها، كما المتغيرات فى السياسات الأمريكية تجاه كل من الصين وروسيا والهند. هذا طبعا، ناهيك بالانعكاسات الناتجة عن حروب أوكرانيا والشرق الأوسط.
تترك التغييرات الجيوسياسية الدولية، هنا وهناك، بصماتها على أنماط السياسات الطاقوية للدول المعنية. لا مفرَّ من ذلك، إذ إن قطاع الطاقة والسياسة توءمان من الصعب فصلهما.
يستهلك العالم اليوم أعدادًا متزايدة ومختلفة من الطاقات. وقد ارتفع الطلب العالمى على الطاقة 1 فى المائة سنويًا منذ 2019 حتى 2025. وقد ارتفع، على سبيل المثال، الطلب السنوى على النفط خلال نفس الفترة نحو 600 ألف برميل يوميًا. ويعود سبب هذه الزيادة إلى ارتفاع معدلات استهلاك النفط فى الدول ذات الاقتصادات النامية (الصين، والهند) التى بلغت معدلات حصتها نحو نصف الزيادة العالمية للطلب على النفط.
• • •
فى عهد دونالد ترامب، تبنَّت الولايات المتحدة، أكبر منتج ومستهلك للطاقة عالميًا، شعار «أمريكا أولا»، التى تعنى الاستهلاك والاعتماد على موارد الطاقات المحلية، وتقليص أو محاولة الاستغناء عن الاستيراد. هذا معناه طاقويًا أن الولايات المتحدة تدعم إنتاج واستهلاك الوقود الأحفورى (النفط، والغاز، والفحم الحجرى)، وفى الوقت نفسه تقليص وتهميش سياسة دعم الطاقات المستدامة.
ونجد بالفعل أن القانون الأمريكى، «قانون تخفيض التضخم» الذى شرَّعه الكونجرس فى عهد الرئيس السابق جو بايدن فى أغسطس 2022، والذى أطلق بدوره جملة مشاريع للطاقة المستدامة، قد غُضَّ النظر عنه وهمِّش فى عهد ترامب لصالح موارد الوقود الأحفورى، وبالذات دعم صناعة الفحم الحجرى، الوقود الأكثر تلوثًا. وتشكل موارد الوقود الأحفورى الثلاثة أسس «موارد الطاقة الداخلية الأمريكية» فى الوقت الراهن، معتمدةً على النجاح الاقتصادى الباهر لصناعة النفط الصخرى منذ 2014، التى حوّلت الولايات المتحدة إلى دولة نفطية عالمية كبرى. أما صناعة «الطاقات المستدامة» فى عهد ترامب، فقد شهدت انكماشًا واضحًا، متمثلًا فى إلغاء مشاريع تحت الإنشاء، أو عدم الموافقة على مجموعة من المشاريع المقترحة. والاستثناء هنا هو التشجيع.
فى المقابل، تتبنى الصين سياسة طاقوية على العكس تمامًا من السياسة الأمريكية الحالية. فشعار الصين هو المضى قدمًا فى طريق «مرحلة التحول الأخضر». وهذا الطريق هو دربها لتحقيق مركزها التكنولوجى المتفوق عالميًا فى مجالات اختراع وتصنيع السلة اللازمة بـ«الطاقة الخضراء»، ليس فقط للسوق الصينية المحلية الضخمة، بل لتتربع على زعامة تصدير ألواح الطاقة الشمسية للأسواق الدولية وسلع طاقة الرياح والتخزين والمركبات الكهربائية، كما هو حاصل فعلًا الآن. ناهيك بدورها النشط فى الاكتشاف والتنقيب عن المعادن النادرة، مثل الليثيوم، الضرورية لصناعات «الطريق الأخضر». كما تلعب الصين دورًا نشطًا فى توفير الدعم المالى والتقنى للدول المستوردة لصادراتها «الخضراء»، بالإضافة إلى دعمها فى سوقها الداخلية كبيرة الحجم.
أما فى أوروبا، فهناك حالة جديدة/ قديمة؛ الجديد منها هى التساؤلات حول دور الولايات المتحدة فى المساعدة على الدفاع عن الأقطار الأوروبية الأعضاء فى الحلف الأطلسى، الأمر الذى يُقلق الزعامات والرأى العام الأوروبى. أما القديم منها، فهو الخوف المهيمن على الساحة السياسية الأوروبية راهنًا، حول الكيفية والقدرة على الدفاع عن النفس، فى حال نشوب معارك عسكرية مع روسيا، كما هو الأمر مع أوكرانيا. ومعضلة أوروبا فى هذا السيناريو الجديد هو قلب سياستها الطاقوية رأسًا على عقب. فقد كانت معتمدةً على أجندة ذات أولوية للطاقات المستدامة، والاعتماد الهيدروكربونى الأهم على واردات الغاز الروسى عبر شبكة الأنابيب الروسية الواسعة. لكنَّ حرب أوكرانيا أدت إلى إعادة النظر فى السياسات المعتمَدة سابقًا. والنقاش المستمر منذ الحرب هو حول تبنى ظاهرة جديدة، وهى أن الطاقات المستدامة لا توفر الإمدادات الطاقوية بكفاءة أو بكفاية الطاقة الهيدروكربونية التى حلت محلها إلى الآن. كما وجدت أوروبا نفسها فى معضلة، إذ من الصعب تعويض الغاز الروسى بإمدادات غازية أخرى دون تحمل نفقات مالية باهظة لتشييد البنى التحتية، بالذات لصناعة استيراد الغاز المسال أو لدفع أسعار أعلى للغاز المسال مقابل أسعار الغاز المستورد عن طريق الشبكة الروسية.
• • •
إن العودة إلى النفط بشكل واسع سيعنى فشلًا ذريعًا لأوروبا فى قيادة حملتها العالمية لتقليص وتهميش دور النفط. وتجرى المحاولات الأوروبية الآن، من خلال توغل هذه الأزمة إلى صميم أجندات الأحزاب الأوروبية المنقسمة على نفسها انقسامًا حادًا ما بين اليمينيين والمحافظين. والخيارات المطروحة هى ما بين استيراد الغاز المسال الأمريكى الذى يضغط لتحقيقه ترامب فى حال إحلال السلام الأوكرانى، رغم ارتفاع سعره عن غاز الأنابيب الروسى، ودعم المفاعلات صغيرة الحجم للصناعة النووية كما هو الحال فى فرنسا وبريطانيا، رغم المعارضة هنا أيضًا لاستعمال الطاقة النووية فى ألمانيا.
وتواجه الهند بدورها معضلة فى سياستها الحالية التى أدت إلى بروزها كأكبر دولة مصدِّرة للمنتجات النفطية إلى الأسواق الآسيوية المجاورة. فقد استطاعت من خلال شركات التكرير الخاصة أن تحتل المرتبة الأولى فى تصدير المنتجات النفطية من خلال شركات التكرير التابعة للقطاع الخاص لديها. هذا، رغم أن الهند ليست دولة منتجة كبرى للنفط وسوقها الداخلية واسعة جدًا. فقد استطاعت أن تنشئ تجارة رابحة باستيراد كميات كبيرة من النفط الخام من دول الخليج العربى والعراق وإيران لتلبية الطلب فى السوقين الهندية والآسيوية.
تغيَّر الوضع بشكل واضح خلال السنوات الثلاث الماضية، بعد نشوب حرب أوكرانيا وقرارات الولايات المتحدة وأوروبا فرض الحظر على النفط الروسى. إذ بادرت الشركات النفطية الروسية فى العثور على أسواق جديدة لنفطها المحظور، فطرقت أبواب شركات التكرير الخاصة الصينية والهندية، وذلك من خلال عرض حسومات عالية للنفط الخام الروسى وتصديره إلى الدولتين الآسيويتين الكبريين عبر شبكة ناقلات قديمة، من ثم لا تخشى فرض عقوبات عليها، أو تغيير أسماء الناقلات للتمويه. استمرت هذه الطرق فى التهريب وذكرتها وسائل الإعلام الأمريكية فى حينه، لكن دون اتخاذ ردود فعل عقابية أمريكية على الدولتين الآسيويتين فى حينه، حتى تسلم ترامب الرئاسة.
استطاعت واشنطن أن تفرض ضغوطًا كبيرة على الهند وشركاتها الخاصة. وتحاول الحكومة الهندية الآن إيجاد حلول للمسألة المستعصية لديها، لا سيما أن ترامب ربط الموضوع بمسألة المفاوضات حول معدلات التعرفة الجمركية بين البلدين. ومن ثم، وضع نيودلهى أمام خيارين صعبين: مساندة شركات التكرير الخاصة ذات الدور المهم فى الاقتصاد الهندى، أو الولايات المتحدة، ذات علاقات الاقتصادية والاستراتيجية المهمة مع الهند فى نفس الوقت. تشير الأنباء إلى أن الأمر فى طور المحادثات بين البلدين، وقد يمتد بعض الوقت نظرًا لأهميته لكلٍّ من نيودلهى وواشنطن، قبل اتخاذ قرار نهائى حوله نظرًا إلى أهميته للدولتين.