كنت أحد الذين توقعوا، فور إعلان فوز دونالد ترامب على كامالا هاريس، أن يشهد العالم فى أيامه الأولى فى البيت الأبيض سلسلة من عناوين سياسات تشكل فى مجموعها ما أطلقت عليه وقتها تعبير تسونامى ترامبوى يجرف أمامه دولًا وعقائد وأوضاعًا كان الظن أنها رسخت. هذا بالضبط ما فعله وكنا فى النهاية، ضمن حلفاء لأمريكا، بين ضحايا هذا الإعصار. للأسف رأيناه وسمعناه ومعنا العالم بأسره يستخدم لتحقيق غرضه أسوأ ما فى قاموس الازدراء والاستخفاف والاستفزاز من كلمات وعبارات، أما الغرض فكان ولا يزال إحداث فوضى شاملة يهد بها قناعات وسياسات دول أخرى كبيرة وصغيرة، ليحصل لنفسه على حيز أوسع فى ساحات الإعلام، وليتخلص من منافسيه وخصومه وتبرئة نفسه من إدانات القضاء على كل مستوياته ومكافأة كل الأغنياء الذين مولوا حملته الانتخابية وأغلبهم من المقاولين وغلاة الصهاينة، كل هذا وأكثر تحت لافتة العمل لعودة أمريكا عظيمة من جديد.
• • •
ليس صعبًا التنبؤ بأن السنوات المقبلة فى حكم الرئيس ترامب سوف تكون أصعب من سنوات ولايته السابقة، والتى انتهت بخسارته انتخابات الولاية الثانية التى كان يحلم بها. نعرف كيف أنه لم يتحمل الهزيمة بشجاعة وحكمة حتى أنه لجأ لتدبير ما يشبه الانقلاب مورطًا عشرات الأفراد المعروفين بتطرفهم اليمينى راحوا يحتلون مبنى الكابيتول، رمز النظام الديمقراطى الذى يمقته اليمين الأمريكى المتطرف. لم يفاجئنى الاستقبال السيئ فى مؤتمر ميونيخ للأمن لنائب الرئيس الأمريكى. لم ينسَ الحضور، الذين يمثلون فى حقيقتهم قاعدة الحكم والنفوذ فى القارة الأوروبية، لم ينسوا أن التيار اليمينى الجارف الذى يكاد يطيح اليوم بعدد من حكومات أوروبا، هو من صنع أو دعم مساعدين للرئيس ترامب وأعوانه والمتعاطفين معه. أحزاب أوروبا المعتدلة واليسارية لن تغفر له ما فعل وحكومات أوروبا الراهنة لن تدعه ينعم باتفاق سلس مع روسيا على حساب أمن وسلام أوروبا. مرة أخرى تهتز ثقة الحلفاء بالقطب الأعظم ومرة أخرى تعود أوروبا مصدر الخطر الحقيقى على السلام العالمى.
• • •
ليس هنا المجال الأمثل للحديث عن أفراد المجموعة التى اختارها الرئيس ترامب لمساعدته فى الحكم. أتوقع، ويتوقع محللون أمريكيون وأوروبيون، أن يكتشف الرأى العام الأمريكى نقائص فى هذا الاختيار، بعضها أُثير فى لجان مجلس الشيوخ التى راجعت هذه الاختيارات، ولم تتوقف عندها رغم فداحتها. يستطيع الرئيس إجراء تغييرات فى بعض مواقف السياسة الخارجية وعد أو هدد بها وهو ما حدث بالفعل، لكنه سوف يجد صعوبة فى التخلص من أحد مساعديه إذا وجد التخلص منه ضروريًا، وهو يكاد يماثل ما حدث مع ستيف بانون. بمعنى آخر، أعتقد أن ترامب الثانى أضعف كثيرًا من ترامب الأول من حيث إنه يأتى وقد صارت «النخبة السياسية الحاكمة» محل نقد شديد. فى الغالب لن يجد ترامب الثانى طريق الحكم ممهدًا أو مزدانًا بالزهور ففى الشارع الأمريكى أيضًا غضب غير بسيط.
• • •
أضف إلى موقف الرأى العام المسيس وكذلك إلى موقف الرأى المتخصص داخل أجهزة الأمن كالجيش ومواقع العصف الفكرى مثلًا، بعض أخطاء انزلق إليها الرئيس الجديد ومجموعته فى الحكم منها على سبيل المثال قرار الرئيس تشكيل «بطانة إيمان» من سيدات ورجال يحتلون مواقع تبشيرية فى عديد المراكز الدينية ويحيطون الآن برئيس القصر ومساعديه. أضف أيضًا نشأة مجموعات ضغوط قوية ناصبة مصالحها على حساب مصالح الدولة العظمى الحالة والعاجلة. كل هذا وغيره كثير يشير إلى أن العالم ربما كان فى جوهره بخير، ومن الممكن لو أحسنت الصين وروسيا والهند عملها أن يتطور صعودًا نحو نظام متعدد الأقطاب، ولكن فى ظاهره يعانى من آثار فشل محاولة بعد أخرى لتجديد الدماء فى شرايين هيمنة أمريكية تتهاوى، فضلًا عن أن أمريكا فقدت فى السنوات الأخيرة بعضًا غير قليل من احترام الآخرين وكثير من الأمريكيين لمؤسسات الحكم لكثرة ما شاب عملها من أخطاء جسيمة. أضرب فيما يلى مثلًا بتاريخ الهيبة المتناقصة للمكتب البيضاوى، حيث يصنع القرار الأهم ويصاغ.
• • •
أولًا: تداول منصب الرئاسة فى العهود الأخيرة عدد من الأشخاص لم يقدروا حق التقدير مكانة المنصب وحدود القوة فى الأداء. جورج بوش الابن أساء بخضوعه لنفوذ جماعة ضغط صهيونية أطلقت على نفسها صفة المحافظين الجدد، وجعلت الرئيس يندفع نحو حرب غير ضرورية لأمريكا فى ذلك الحين. لكنها الحرب التى أساءت إلى هيبة الرئاسة إساءة لم تغتفر إلى يومنا هذا، وأساءت إلى سمعة أمريكا فى مختلف مواقع العمل الدولى. يشهد تاريخ المكتب البيضاوى على مشاورات قادتها هذه المجموعة وانتهت فيها إلى إقناع الرئيس اتخاذ قرار هذه الحرب غير الضرورية لمصالح أمريكا وإنما ضرورية لتحقيق أهداف مجموعة الضغط الصهيونى فى وزارة الدفاع وفى البيت الأبيض.
ثانيًا: يسجل التاريخ أن رئيسًا لأمريكا، القطب الدولى المشارك وقتها مع الاتحاد السوفييتى فى قيادة النظام الدولى، ارتكب فى المكتب البيضاوى جريمة تجسس على خصوم سياسيين. كانت فضيحة هزت ثقة الحلفاء فى صدقية وأخلاق شاغل هذا المكتب. انتهى الأمر، كما لا شك نذكر، بعزل رئيس الدولة الأعظم من منصبه وتولى نائبه المسئولية بعده. يشهد التاريخ أن هذه الفضيحة أسهمت بدرجة كبيرة فى الإساءة إلى هيبة موقع عمل رئاسة الدولة العظمى، وهى الإساءة المستمرة إلى يومنا هذا.
ثالثًا: تابع الكثيرون فى أمريكا وفى خارجها بشغف مشهود وفضول كبير تطور فضيحة العلاقة العاطفية التى قامت بين رئيس لأمريكا، القطب الأعظم، والمتدربة فى سن المراهقة. المأساة تأبى إلا أن تتكرر إذ كان المكتب البيضاوى الذى تؤخذ فيه أهم القرارات التى تمس أمن وسلامة دول العالم الساحة التى نمت فيها هذه العلاقة وتكشفت فى التحقيقات أبعادها وآثارها الضارة على هيبة منصب الرئاسة وليس فقط المكتب البيضاوى. قطاع هائل من شباب العالم فى شماله وجنوبه تابع فصول هذه الفضيحة ولا بد أنها خلفت فى ذاكرته وعلى تكوينه السياسى انطباعًا لم يمح عن هذا المكتب الذى تصدر عنه قرارات تخص السلم والأمن الدوليين.
رابعًا: شهد المكتب البيضاوى بين ما شهد، مرحلة مهمة من مراحل تردى الصحة العامة للرئيس جو بايدن. لم يغب عن وعى ملايين الأمريكيين منظر رئيسهم فى المكتب البيضاوى، وهو يتلعثم فى النطق بالتوجيهات الرئاسية والأحاديث الصحفية، أو وهو يتوه ضائعًا بين الأبواب ليخرج من باب منها. حدث هذا فى وقت كانت الدعوة لتجديد عظمة أمريكا التى راح يبشر بها الرئيس المنتخب دونالد ترامب ملء السمع والبصر موحية بأن وراء هذه الدعوة حقيقة أن أمريكا العظمى تنحدر فى نظر حكامها، كما فى نظر الرأى العام السياسى فى أمريكا ذاتها وفى عديد الدول. لم يهتم كثيرون بالبحث عن السبب وراء الانحدار فإن كان انحدارًا نسبى الدرجة بمعنى أنه الوجه الآخر لصعود مفاجئ ومذهل لدولة أخرى تسعى إلى القطبية، تركت توالى صعودها، ولم تتدخل أمريكا لوقف هذا الصعود. يدرك الجميع أن استمرار صعود الصين يعنى فى نهاية المطاف انهيار النظام الدولى الذى صاغت فصوله وتفاصيله الولايات المتحدة الأمريكية قبل قرابة قرن.
خامسًا: كما لو كان الأمر متعمدًا راح الرئيس ترامب يستغل المكتب البيضاوى لتمجيد مكانته وهذا حق له لا ينازعه فيه أحد. أما أن يتحول المكتب إلى قاعة للتسلية ترفع فيه الكلفة لكل زائر أن يفعل ما شاء له كأن يرتدى من الملابس ما يخالف تقاليد هذا الموقع، وأن يأتى بابنه ليلهو ويتحدث مع رئيس يفترض انشغاله بحرب بين روسيا وأوكرانيا وحرب بين المقاومة الفلسطينية وجيوش دولة إسرائيل. حدث هذا أمام ملايين المشاهدين الذين حرص الرئيس الأمريكى على وجودهم معه من على شاشاتهم التليفزيونية كل ساعات النهار إن استطاعوا. رحنا بعد يوم على متابعتنا هذا المشهد نسمع ونقرأ ما يؤكد أن هيبة هذا المكتب عادت فتأذت بشدة ولتجر وراءها مكانة أمريكا فى العالم.
• • •
يعتقد الرئيس الأمريكى أن الأساليب الغريبة التى انتهجها والأهداف الأشد غرابة التى اختطها لحكومته كفيلة بوقف انحدار أمريكا إن لم تؤدِ إلى استعادة عظمتها. لا يوجد شىء ملموس ولا دليل معتبرًا كافيًا لإقناعنا بوجاهة هذا الاعتقاد فى ظل هيبة متناقصة ومكانة متراجعة.