اليوم تركت زميلة لنا العمل لتتفرغ لشهادة علمية أرفع. حزنت رغم أنها ليست أول من يترك عملا تحت رئاستى ولن تكون الأخيرة، فقد عشت حياة عمل طويلة بدأتها مرءوسا فى نحو السابعة عشرة من عمرى وانضم خلالها للعمل تحت رئاستى العشرات وربما المئات. حزنت فى كل مرة رحل مرءوس ولكن ليس كحزنى على رحيل من تركت اليوم. تركت ولم يكن التوديع مناسبا، فهو المناسبة التى أجيد فيها التعبير القوى عن اعترافى بالجميل وثقتى فى أن المستقبل لن يتخلى عن زملاء أحسنت تدريبهم وأحسنوا الأداء. هذه المرة لم أحسن التوديع بسبب الظروف التى تمر بها الجريدة، وهى الظروف التى حرمتنا، رئيسا ومرءوسين، من أن نلتقى ولو مرة واحدة. أهى أزمة الصحف أم أزمة الكلمة عامة أم أزمة الموارد؟، هى أزمة على كل حال.
***
خطرت لى فكرة وأنا أودع زميلتى على الهاتف.. لماذا لا أسرد بكلمات قليلة لقراء من الشباب وربما أيضا لقراء من الشيوخ بعضا مما بقى عالقا بالذهن من تجارب خضناها فى مواقع اخترنا العمل فيها، تارة كنا مرءوسين وتارة رؤساء.
***
من أول تجاربى تجربة لى مع أستاذ بالجامعة. كان وهو عميد يجلس وسط الطلبة فى مقهاهم. يختار منهم من يساعده فى إنشاء جمعية لهواة الموسيقى. يدربهم ويلقى فيهم محاضرات فى سير حياة كبار الموسيقيين وأهم مؤلفاتهم ويبسطها لآذان تعودت على الموسيقى الشرقية. هؤلاء يتولون بعد تدريبهم تشجيع زملاء على الانضمام وتنظيم الرحلات إلى دار الأوبرا وبعض الفنادق التى كانت من عادتها استضافة فرق أجنبية لعزف مقطوعات مما جرت تسميته بموسيقى الغرفة. كان أيضا يشجع الطلاب على ممارسة رياضات الجرى والمشى ويقودهم فى رحلة إلى القناطر الخيرية أو إلى حلوان مشيا على الأقدام والعودة بالقطار. أذكر أنه استدعى إلى بيته ذات يوم عددا من الطلبة والطالبات ووزع عليهم بعض كراسات الإجابة على امتحان فى مادة كان يدرسها وطلب من كل منهم اقتراح درجة لكل كراسة. انتهوا وكلهم فى قمة الانتشاء فإذا به يسلم كل طالب كراسته ويطلب منه تصحيحها بنفسه مستفيدا من اطلاعه على كراسات زملائه. كانت التجربة لبنة أسست لأسلوب فى التعامل الصحى والممتع مع المرءوسين والأقل مرتبة بشكل عام.
***
اشتغلت مع رئيس كان يفاجئنى كل صباح بتكليف لا يتغير. أما التكليف فكان «قل شيئا براقا.. عايز أسمع فكرة بتبرق». كنت إذا تأخرت فى الإجابة ثوانى لا أكثر يسأل «ماذا فى جعبتك من قضايا تشتغل عليها اليوم» محذرا من أن تقتصر إجابتى على القول المألوف «حاجات كتيرة». يريد قضية واحدة هى الأهم وهى التى تستحق التركيز عليها. سمع زميلا يتفاخر أمام زملاء بأن لا أعداء له أو خصوم. قال له سمعتك تتفاخر بأنك لم تصنع أعداء وأن لا أحد يكرهك وأنك بالتالى لا تكره أحدا فى هذا المبنى. لا تسعد كثيرا بهذا الإنجاز وهو ليس بإنجاز على الإطلاق. إنسان بدون خصوم أو منافسين أو أعداء لا يجب أن يفخر بنفسه أمام الغرباء لأنهم سيقررون فورا أن هذا الانسان لا يؤثر فيمن حوله ولا يصدر رأيا مخالفا ولا يتمسك برأى إن كان تمسكه به يكسب به أعداء ويخسر أصدقاء.
***
أنبنى من كان فى مرتبة أعلى منى لأننى وأنا الأصغر سنا والأقل خبرة صححت لرئيس العمل ما اعتقدت أنه خطأ. دافعت عن نفسى فالخطأ واضح وزاد إصرارى مع إصرار الرئيس على التمسك بالخطأ. جاءت النصيحة من نائب الرئيس سريعة وحاسمة «لا يا ابنى.. إن أردت أن تستمر فى هذا النوع من العمل لا تصحح لرئيسك ما تظن أنه خطأ، وإن تمسك به فعليك أن تسرع بتقديم الاعتذار والاعتراف بجهلك وطيش شبابك». لم أعتذر. تذرعت بأن الخطأ الذى يتمسك به رئيس العمل يقع فى خانة الكذب ويضر بمصالحنا القومية. أسكتونى يومها ولم أسكت فى اليوم التالى وكاد المصير أن يكون وخيما.
***
لم أشجع من بيده الأمر على الإشادة بى لدى كبار القوم خشية أن أجد نفسى واحدا من مجموعة تشتهر بكتابة خطب الرؤساء وكلماتهم فى المؤتمرات والمحافل. عملت لفترة غير قصيرة مع رئيس عرفت عنه البساطة والواقعية الشديدة فى التعامل مع الناس ومع القضايا. ذات يوم غاب فيه الزميل المكلف دائما بكتابة خطب الرئيس لأجد نفسى أمام واجب أكره تنفيذه ومجبرا عليه. كتبت الخطاب ودخلت على الرئيس. بدأ يقرأُ ثم توقف قبل أن يصل إلى نهاية الفقرة الأولى. رفع نظاراته عن عينيه وراح يتأملنى كما من لم يرانى من قبل. «يا ابنى ده موضوع إنشاء ينفع للمدرسة مش لمسئولين سياسيين هم فى الأصل جايين بالغصب، ويمكن يناموا فى نص الخطاب. وبعدين ما تكتبش جمل طويلة علشان ما تقطعش نفسى. ما تنساش تحذف كل الكلمات صعبة النطق أو الغريبة على آذان المستمعين وبلاش وحياتك الكلام عن نظريات التوازن والرأسمالية والاشتراكية. ما حدش حيفهم. روح اقرا خطاباتى القديمة وخد منها اللى ينفع النهارده»، كانت أول وآخر مرة.
***
عرفت شخصا رفض بكل الإصرار أن ينتقل، ولو مرة واحدة فى حياته العملية، من مرتبة المرءوس إلى مراتب الرؤساء. أحب أن يكون مرءوسا بل أظن أنه نجح فى أن يجدد فى معنى المرءوس حتى أن بعض الزملاء عرضوا أن يتنازلوا عن منصب الرئيس ليعودوا مرءوسين ولكن بالامتيازات التى يتمتع بها زميلهم المرءوس الدائم. لم يفلح من حاول فلا هو نجح كمرءوس ولا عاد رئيسا. كثيرون لم يفكوا لغز الزميل عاشق مرتبة المرءوس إلا بعد مرور عقود. أن تكون مرءوسا دائما تضمن ألا يزيحك أحد. شرط النجاح هو أن تكون مرءوسا لأكثر من ثلاثة رؤساء فى وقت واحد وفى مواقع متناثرة ومؤثرة وأن تعدل بينهم وزميلنا عرف كيف يعدل.
***
أذن لى ففاتحته باقتناع من جانبى وصراحة فى العرض. قلت إننا فى هذه المؤسسة نبدو أمام الناس وبخاصة الأغراب مقصرين فى الجانب الإعلامى. لدينا كفاءات بشرية متميزة وإمكانات مادية لا بأس بها. سبقتنا فى الظهور والأداء مؤسسات شبيهة ظروفها بظروف مؤسستنا. لا شك أننا فقدنا أرضا كان يمكن أن نحتلها وخسرنا وقتا كان يمكن أن نستفيد به فى تطوير أنفسنا وتوسيع مداركنا الإعلامية. نهض الرئيس من مقعده وراح يمشى فى الغرفة الفسيحة ذهابا وإيابا وكلى ثقة أننى لابد أقنعته وها هو يستعد للاعتراف بأننا تأخرنا ولاتخاذ قرار بتنفيذ اقتراحاتى الموضوعة على مكتبه. مرت دقائق وهو يمشى وأنا ابن الثلاثينيات جالس. نهضت لأقف فأجلسنى بربتة على الكتف وقال «هل سألت نفسك قبل أن تتعبها كلاما وكتابة كيف ولماذا نضع خطة إعلامية وليس لدينا فى هذه المؤسسة إنجاز واحد يستحق أن يكون موضوعا لنشاط إعلامى. يا ابنى، فى بلادنا لم يفهموا بعد قيمة الإعلام أو معناه.. الإعلام لا ينفع مع من لا يبدعون ولا ينهضون ولا ينتجون بوفرة ولا يخزنون أو يتبادلون ما يفيض. الإعلام يبدأ من قلب القضية فإذا كان القلب ضعيفا أو منهكا يصبح الإعلام عن القضية هدرا للجهد وإفسادا للعقل وتحميل المؤسسة فوق ما تحتمل» .
ملحوظة: وقع هذا الحديث قبل نحو خمسين عاما أو أقل .
***
اتصلت بى من أعماق الزمن برسالة نصية جاء فيها «سألت عنك وتحريت. حمدا لله أنك موجود. أنا فلانة كنت مرءوستك قبل ثلاثين عاما. أنا الآن على القمة، قمة شركة متعدية الجنسية. أذكرك بالخير، خير لا شك تستحقه.. أنا مدينة لك بالكثير. ما أرفل فيه اليوم من سعادة عائلية وثراء مادى وسمعة عالمية وثقة بالنفس إنما هو بعض ثمار تدريبك وتشجيعك لى وأنا ما أزال عند مطلع الدرب ولكن طموحة ومتلهفة. علمتنى كيف يكون الرئيس. أشكرك.