أيام لن تنساها مصر، وربما لن ينساها الجزائريون والعرب والعالم، سنذكرها بحلوها ومرها. ولن نعرف قيمتها وحقيقة ما جرى خلالها إلا بعد أن يهدأ الشارع ويعود الكبار إلى أعمالهم والشباب إلى جامعاتهم ومدارسهم والحكومة إلى مكاتبها والصحف ووسائط الإعلام الأخرى إلى رسالتها: رسالة التنوير والترشيد.
لن يهدأ الشارع طويلا، سيعود بعض الكبار إلى عمله ويبقى البعض الآخر عاطلا عن العمل، ويعود بعض الشباب إلى جامعاته ومدارسه ويبقى البعض الأكبر فى الشوارع متسكعا أو متحرشا بالنساء أو «ضاربا» لمخدر أو آخر ، ويعود بعض الصحف والفضائيات إلى رشده وإلى رسالته ويبقى البعض الأعظم متفاخرا بشعوبيته وكفاءته في الإثارة والوقيعة وتضخيم الذات.
ستبقى ذيول هذه الأيام تلاحقنا بعلامات تعجب و استفهام تلحق بكل عبارة ننطق بها أو نكتبها أو وصف ما حدث وتوقع ما سيحدث.
كانت الصورة فى بدايتها، كما قدمنا وقدموا لها، تعكس حالة شعب يريد أن يفرح، وما الضرر؟ فما من شعب في الدنيا وجد فرصة ليفرح فيها ورفضها أو تخلى عنها.
رأيت فى مختلف أنحاء هذه الدنيا شعوبا تفرح، رأيتها تقيم بين الحين والآخر مهرجانات للرقص والغناء وتحتفل بأعيادها ومناسباتها أحلى احتفال لتفرح لا لتجدد أحزانها وتذرف دموع الأسى والأسف وتنعى الحظ. وحين تفرح، أو تقرر أن تفرح، فمن الطبيعي أن تكون حريصة على ألا تؤذى مشاعر أفراد حرمتهم ظروفهم من المشاركة فى الفرح رغم حاجتهم إليه.
ففى الشارع الذى أقيم فى إحدى البنايات المطلة عليه توجد ثلاثة مستشفيات، اثنان للولادة وواحد لعلاج الأمراض المستعصية، وفيه بعينه استمرت أفراح الليلة المشهودة، ليلة المباراة، حتى الخامسة صباحا.
وما كان يمكن أن تتحقق الفرحة بدون صواريخ قصيرة المدى ولكن صاخبة، ومزامير قبيحة الصوت.
روجنا، وكنت شريكا فى الترويج، لصورة تعكس حال شعب يحن إلى الانتماء لوطن، انتقدت كثيرا وطويلا نظام حكم لم يفلح بإنجازاته أو حتى بإخفاقاته فى خلق شعور لدى الإنسان المصرى بالانتماء لبلاده. كنت، ومازلت، أعتقد أن الإنجازات غير كافية أو ليست على المستوى المنتظر، أو أن الإخفاقات تجاوزتها عددا وأهمية فغطت عليها، أو أن النظام عاجز عن الترويج لإنجازاته، على قلتها.
وأغلب الظن أن وزراءه ومستشاريه نساء ورجالا غير مهتمين، يبدو النظام وكأنه واثق كل الثقة من أذرعته الأمنية الى حد الاعتقاد الجازم فى أنه فى غير حاجة إلى شعب متحمس بالانتماء لوطن، يعرف أن الوطنية كانت دائما الخطوة الأولى التى يخطوها الفرد على طريق المواطنة، أى على طريق المشاركة السياسية والضغط لاستخلاص حقه.
مالم نقدره التقدير السليم، وأخشى أن نخرج بسببه من تجربة الأيام الأخيرة خائبين، هو أن الوطنية ليست رغبة أو لحظة.
الوطنية شعور مستمر وراسخ يدفع صاحبه إلى التفاعل بدون توقف مع جميع الأخطار التى تهدد الوطن بمؤسساته وأفراده ومنظومة قيم تبناها الأجداد وأضاف إليها الآباء والآن يتخلى عنها الأبناء ويرفضها «المصريون الجدد».
لقد تعاملنا، حكومة ووسائط إعلام وأحزابا، مع تطورات الأسبوع الماضى بمنطق دعونا نعيش لحظة انتماء بأى ثمن وفى أى شكل ولأى قضية. وأظن أن فى الحكم حكماء درسوا التاريخ وعرفوا أن الشعور الوطنى إن انجرف أو تطرف حرف مجرى التاريخ وبدل مصائر أمم أو على أقل تقدير أسقط أنظمة حكم.
هؤلاء الحكماء وبعضهم فى حزب الحكم تعلموا الدرس حين قرأوا تاريخ الثورة الفرنسية وتاريخ انطلاقة الفاشية فى إيطاليا فى الربع الأول من القرن العشرين وصعود النازية فى ألمانيا فى الربع الثانى من القرن ذاته ومن قبلهما كانت لحظات الانتماء الوطنى المتطرف فى روسيا فى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين هى التى مهدت الطريق للبلشفيين للاستيلاء على السلطة.
لا نريد لمصر حرفا فى المسار أو دماء فى الشوارع أو انهيارا فى المؤسسات أو غضبا يشعل الوطن نارا، وغيره مما يمكن أن يحدث فى غمار لحظة من اللحظات «الانتمائية» التى تختلقها المجموعة الحاكمة أو تشجع عليها لأسباب نفهمها ولا نقدرها.
نريد انتماء يرفض النرجسيات الكاذبة فبمنظومة أخلاقية وسياسية متدهورة كتلك التى نعيش فى ظلها ونهتدى بها لسنا ولن نكون فى يوم قريب أفضل أمم الدنيا أو خير أمم الإقليم. واجب علينا السعى لتعريف بنات مصر وأبنائها بكل الأخطار التى تهدد بلادهم ومستقبلهم بدون تهويل أو تهوين، وأظن أن هذه القائمة لن يكون بين بنودها بند يضع مباراة لكرة القدم أو للكرة الطائرة باعتبارها خطرا يهدد أمن مصر القومى أو يعرض حدودنا للاختراق وأرضنا للاحتلال.
هنا، وفى الجزائر، وفى بقاع عربية أخرى توجد عناصر تمثل حالة من حالات تردى العقل العربى والإسلامى، عناصر تنحت أصناما وتنصبها أمام جماهير تئن بعذابات الفقر والأوبئة والكوارث والتطرف الدينى، وتحن بصدق إلى انتماء لوطن يوحد الصفوف ويذيب الفوارق الفاجرة التى صارت تفصل بين فئات المجتمع بعضها عن البعض الآخر، وتصنع أملا فى مستقبل أفضل.
لن تنفع لبناء انتماء وطنى حملة هدفها إشعال غريزة وإثارة انفعالات حول مباراة رياضية، أو حول تصرفات لقيادات سياسية أو حزبية فى بلد عربى أو آخر، لن تنفع حملة كهذه فى بناء انتماء للوطن أكثر مما ينفع صنم يتشكل من كلمات جوفاء ثم تأتى كارثة قطار أو غرق عبارة أو فضيحة فساد عظمى فتتطاير الكلمات ويزهق الانتماء ولا يبقى إلا الغضب.