أتسمع صوت الهجمات الاسرائيلية على غزة. يمكنك ان تسمع الانفجارات، وأزيز الطائرات الروبوتية القاتلة، وسيارات الاسعاف. هذا هو الشريط الصوتى المصاحب لحياة الفلسطينيين فى غزة، يسجلونه ويبثونه، فيسمعه أصدقاؤهم فى جميع انحاء العالم ــ وبالذات فى العالم العربى، ويعيشون الحدث معهم دقيقة بدقيقة.
نقرأ أيضا تغريدات وتدوينات شباب غزة، ونتأمل جيدا الصور التى ينشرونها ــ مثل صورة رنان عرفات، قبل الحدث وبعده. قبل الحدث، نرى طفلة جميلة ذات عيون خضراء، ترتدى بلوزة خضراء «جابونيز»، ويزين شعرها شريط أخضر رقيق. وبعد القنبلة الاسرائلية، نرى ــ حين يرفع عنها أحد الأطباء طرف كفن المستشفى الأزرق ــ جسدا صغيرا، مفتوح الفم، متفحم منكمش.
صباح الجمعة شاهدنا رئيس الوزراء المصرى هشام قنديل فى هذا المستشفى ــ مستشفى الشفا فى غزة، ولأول مرة منذ اثنين وأربعين عاما نرى رئيس وزراء مصرى فى المكان الذى نريد، نحن المصريين أن نراه فيه. ولأول مرة منذ عقود يصدق رجل دولة حين يقول انه يتكلم باسم الشعب المصرى، وكان من اللائق فعلا أن يذكر الشعب أولا قبل أن يذكر رئيس جمهوريته.
الدكتور محمد مرسى حاول، بعد ان فاز بمنصب الرئاسة، ان يكون سياسيا براجماتيكيا. مضى قدما فى التنسيق الأمنى مع اسرائيل فى سيناء، وبدأ فى إغلاق الأنفاق التى هى خط الحياة لسكان غزة المحاصرين، ورفض اقتراح انشاء منطقة للتجارة الحرة على الحدود بين مصر وغزة، وأرسل سفيره إلى تل أبيب يحمل رسالة مفعمة بالعاطفة إلى شمعون بيريز ــ وبذا وجد نفسه فى خندق واحد مع فلول نظام مبارك ومحبى المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
ناضلت كوادر الإخوان وحزب الحرية والعدالة ببسالة لتبرير والدفاع عن إجراءات ومواقف رجلهم فى قصر الاتحادية ــ لكن المهمة كانت صعبة، وأخذ اليسار والتقدميون والليبراليون يذكرونهم بمواقفهم الخطابية الكبيرة من فلسطين طوال السنين التى كانوا فيها فى صفوف المعارضة، فلماذا الصمت المدوى الآن وهم فى السلطة؟ ظهرت على النت الـ«سكتشات» الساخرة حول «رسالة الغرام» التى أرسلها مرسى لبيريز، وظهرت تعليقات الجرافيتى على جدران القاهرة.
والآن فقد ورط الاسرائيليون محمد مرسى، لكنهم ربما يكونوا قد دفعوه ــ دون قصد ــ إلى موقع يجد نفسه فيه أكثر ارتياحا، لانه أكثر اتساقا مع مواقع الشعب. أمس واليوم تتجه مجموعات كبيرة من شباب مصر نحو غزة (ابنة أختى واحدة منهم). فكما حشد المجتمع المدنى فى العالم لإرسال قوافل البواخر إلى غزة، يذهب شباب المصريين المدنيين المؤمنين بالحرية لدعم اصدقائهم. وعلى صعيد أكثر «رسمية» وصل الأطباء والصيادلة المصريون فعلا إلى غزة. الدكتور عبدالمنعم ابوالفتوح، الطبيب ومرشح الرئاسة السابق، ذهب إلى غزة ايضا ــ كما فعل فى اعتداء إسرائيل الأخير على غزة ــ «الرصاص المصبوب» ــ وكان ذلك قبل ان تكون لديه أى نوايا سياسية. وطالب اتحاد الاطباء العرب بالتبرعات والمتطوعين، وأخذ ينظم الوفود..
كانت إحدى ورقات اسرائيل الرابحة دائما أنها تزكى نفسها عند الغرب كدولة ديمقراطية وسط بحر من التخلف والتعصب. غير أن الربيع العربى قوض هذا الزعم القصصى ــ بل وربما أصابه فى مقتل. ولذا فالسياسيون الاسرائيليون يدفعون بشراسة نحو إشعال المنطقة بشن حرب ضد ايران، وإلى أن يتمكنوا من هذا الهدف هم يرسمون حلقة جديدة من مسلسل القتل فى غزة. ولو قصدوا أن يحرضوا على العنف ضد أنفسهم لما وجدوا اسلوبا افضل من اغتيال احمد الجعبرى، القائد الحمساوى الذى حال دون الهجمات ضد الاسرائيليين من غزة خلال السنوات الخمس الماضية. باستشهاد أحمد الجعبرى ارتفع احتمال إطلاق الصواريخ على اسرائيل ــ وهو ما يحدث الآن. وباستئناف الهجوم عليها، ستحاول إسرائيل أن تختطف الربيع العربى وأن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء، إلى الخطاب حول «معركة إسرائيل المتحضرة مع الإرهابيين الاسلاميين». ومن المكاسب الآنية لإسرائيل أيضا فى هجومها على غزة رفع الضغط عن بشار الأسد وجرائمه ضد الشعب فى سوريا ــ إضافة إلى تسجيل نقاط إيجابية لنتنياهو وايهود باراك يستغلانها فى الانتخابات المقبلة.
والذى حدث فى الواقع أن هجومهم على غزة إنما ذكّر العالم بأن ديمقراطية اسرائيل تسمح لها بأن يأمر قادتها بقتل الأطفال لتعزيز فرصهم الانتخابية. هؤلاء الاطفال فلسطينيون هذا صحيح، لكن مواطنى العالم لا يفرقون بين الأطفال على اسس عنصرية، فخرجت المظاهرات، يوم الخميس، فى جميع أنحاء العالم لتنصر غزة، واستمرت الجمعة، والترتيبات تعد الآن للأيام القادمة
فى كل دولة عربية حيث ينهض الشعب للمطالبة بحقوقه، يطالب ايضا بحقوق الفلسطينيين. اعلنت تونس ان وزير خارجيتها يتجه إلى غزة. وفى الاردن خرج مئات الالاف إلى الشوارع، واضافة إلى المطالبة باسقاط نظام الحكم، طالبوا ايضا بالعدالة لفلسطين، وخرج المتظاهرون فى ليبيا، وفى مصر اتجه الناس إلى رفح. ثوراتنا وتوجهاتنا هى نحو التمثيل الحقيقى لارادة الشعوب، وفى السنوات القادمة ستتعلم حكوماتنا كيف تسلك الطرق التى نرسمها لها نحن، المواطنين..