أظن أننى نطقت بهذه الكلمات، أو همست بها لنفسى، فى كل مرة ركبنا الترام وأنا جالس على حجر أمى فى رحلتنا الأسبوعية إلى بيت العائلة فى مرجوش. كان المشوار طويلًا بل أطول من حقيقته بالنسبة لطفل لا تهدأ حركته ولا يتوقف فضوله رغم، أو بسبب، انحباسه فى حجر أمه، وكلاهما محرومان من رؤية معظم ما يدور خارج صالون الحريم فى مركبة الترام. أذكر أننى كنت أحسد الشحاذين من الأطفال الذين من كوة فى معطف أمى وثقوب الخوص المشغول بها باب الصالون أراهم يتقافزون من وعلى سلم الترام بشجاعة أو شقاوة يستحقون عليهما حسدى. لم تمنعهم من الاستمرار فى التقافز تهديدات الكمسارى، وكانت ناعمة، ولا برد الشتاء، وكان قاسيًا، ولا ازدحام سلم الترام بالمتهربين من دفع الملليمات الثمانية أجرة الانتقال وبالباعة المتجولين البارعين فى ممارسة فنون وحيل التهرب من المفتشين. عرفت عن أمى فى البيت كما فى خارجه تفضيلها قلة الكلام. لم تكن تبادل غيرها من الراكبات أحاديث كبيرة أو قليلة، إلا أنه لم يكن يفوتها إبراز الخرزة الزرقاء المشبكة بقميصى وتلاوة آيات قرآنية بعينها كلما هبت واقفة راكبة تستعد للنزول من صالون الحريم وكلما صعدت إليه راكبة جديدة.
• • •
"يا ريت كنت أكبر من كده شوية". أظن أننى كثيرًا ما نطقت بهذه الكلمات محتجًا، وأنا فى المدرسة الابتدائية وبالتأكيد فى كل مرة أصرت أمى على أن تقوم «سيدة» الطفلة الريفية المكلفة بمرافقتى فى رحلتى الذهاب والإياب إلى ومن المدرسة الابتدائية التى كانت تبعد عن بيتنا حوالى خمسمائة متر. لعلها كانت إحدى أولى مرات تآمرى مع طرف آخر فى تجربة تمرد أو عصيان. أذكر أننى استطعت إقناع «سيدة» بتسليمى شنطة كتبى وكراساتى كل صباح واستلامها منى عند الظهر بعيدًا عن باب المدرسة بمسافة معتبرة. كانت «سيدة» فى طولى أو أقصر وفى الحجم أقل وإن كانت تكبرنى بعامين، وكلها صفات كافية لإحراجى أمام بقية تلاميذ فصلى. جدير بالذكر ووفاء لها واعترافا بأفضالها القول إن «سيدة» عاشت معنا أو بيننا حتى صارت جدة على رأس عائلة ممتدة.
• • •
انتقلت من المدرسة الابتدائية إلى الثانوية ومعى شهادات تثبت حسن الانضباط والدراية الكاملة بتاريخ الحركة الكشفية وقوانين الكشافة وتقاليدها. ومع ذلك فشلت محاولاتى الانضمام إلى فريق الجوالة، بسبب صغر سنى بينما استمرت ترحب بعضويتى قيادة فريق الكشافة. أذكر كم تمنيت وقتها أن أكون أكبر سنا فمع الجوالة تتعدد الرحلات خارج القطر بينما تقتصر رحلات الكشافة على مواقع مصرية، وكلها زرتها مع فريقى فى المدرسة الابتدائية. حلوان والفيوم وأبوقير وبورسعيد والواحات وغيرها، باستثناء الأقصر وأسوان، أقمنا فيها خيامنا لليلة أو أكثر وتعرفت على أهم معالمها واكتسبت صداقات دامت سنوات وتجارب ساهمت فى صقلى ونضجى، ولم أزل دون العاشرة.
قضيت عامين أو أكثر أضغط للانضمام إلى فريق الجوالة ولم تتحقق رغبتى إلا عندما صرت طالبًا جامعيًا. ما إن تحققت الرغبة إلا وكنت مع فريق جوالة كلية التجارة نزور ليبيا حتى حدودها مع تونس والسودان حتى أقاصى كردفان وفى النهاية كانت زيارتى «التاريخية» مع الفريق إلى غزة وأيام صعبة فى سجن مدينة بير سبع وليلة قضيناها فى السجن الحربى فور عودتنا إلى غزة. صباح اليوم التالى، وفى نهاية رحلة شاقة ومثيرة جرى ترحيلى من غزة تحت الحراسة إلى القاهرة ومعى ثلاثة رفاق من فريق الجوالة. تحقق الحلم، زرت كل مصر والأقطار المحيطة بمصر ولم أزل دون الثامنة عشرة. الغريب أننى عشت سنوات أتحسر معتقدا أننى لو كنت أكبر سنا فى كل رحلاتى الكشفية خارج مصر لسألت أسئلة أصعب وربما حصلت على معلومات أعمق وأوفر.
• • •
تخرجت وعلى الفور مستعجلًا تحقيق الحلم قمت، ووالدى معى، ومزودين بالأوراق الضرورية بزيارة رئيس قسم المستخدمين بوزارة الخارجية لطلب إلحاقى بالسلك الدبلوماسى. بالصدفة المحضة اكتشف، الوالد ورئيس المستخدمين أنهما تزاملا فى مرحلة من مراحل عملهما بالحكومة. تبادلا حديثًا مطولًا قبل أن ينضم إلينا ضيف آخر متقدم فى العمر ومعه نجله. تعارفنا وعرفنا أنهما حضرا للغرض نفسه الذى حضرنا من أجله. حانت لحظة المغادرة وكان أهم ما ورد فى مراسم التوديع على لسان رئيس المستخدمين قوله، وفى نظرته لنا، نبيل العربى وأنا، تعاطف أبوى واضح وأسف ظاهر، يتمنى أن نعود إليه بعد عامين ليكونا "يحرسهما الله قد تقدما فى العمر ليلحقا بشرط السن المقرر قانونًا للتقدم لامتحان الملحقين الدبلوماسيين".
مرة أخرى، وليست أخيرة، تمنيت لو كنت أكبر سنًا. كانت عندما نقلت لى ابنة الشاعر عمر أبوريشة تحفظه على صغر سنى وسنها قبل أن أتقدم رسميًا لخطبتها.
• • •
أشهد أننى الآن، وفى هذا العمر المتقدم الذى بلغت، لم أعد أتمنى أن أكون أكبر سنًا أو أصغر. أنا مرتاح تمامًا لما حققت وسعيد به. لا وقت عندى لتحقيق غرض فاته أن يتحقق عندما كان الزمن يسمح ويفيض، ولا يوجد بين برامجى أو طموحاتى هدف يستحق أن أطلب له عمرًا إضافيًا.