كانت أيام البراءة، فى ربيع ٢٠١١: اجتماعات واجتماعات، فى مقر جريدة الشروق، وفى أماكن أخرى، تجْمَع ممثلو التيارات السياسية حول طاولة، والهدف هو الوصول إلى وثيقة تقر مبادئ يتفق الجميع عليها كمبادئ مؤطرة للدستور. وكان هدف آخر هو «التجميعة» نفسها، وما يفترض أن تحدثه من تآلف واكتشاف لأرضيات مشتركة ومساحات تلاقى.
لم ننجح. أو نجحنا فى بلورة ما سميناه «إعلان مبادئ المواطنة والدولة المصرية»، نشرته «الشروق» وقتها، وافق عليه الجميع، أو، قل، تفضل من ارتأى تعديلا وأدخله، فوصلنا إلى نهاية التعديلات ــ ثم لم يوقع عليه أحد. أما الأرضية المشتركة فتصورت أنى رأيتها، وبينت لى الأحداث اللاحقة أنها كانت سرابا.
تحكى لى صديقة عن دراسة حول الشخصية السلطوية، وكيف أن هذه الشخصية لا تعرف التماهى أو التعاطف مع الآخر، ولذا فلا تدخل إليها مؤثرات تجعلها تحيد عن طريقها، وإن فكرت فى «الآخر» فهى تفكر فى كيف توظفه أو ترضخه وليس فى كيف تجد مساحة للتوافق معه. وتقول الدراسة أيضا إنه من الصعب جدا ــ إن لم يكن من المستحيل ــ أن يستوعب صاحب الشخصية اللطيفة المتماهية كيف يمكن للسلطوى أن يتصرف إذا وصل إلى السلطة؛ يقول ــ نقول ــ «لأ طبعا، مش معقول هيعمل كذا»، على أساس إن مافيش بنى آدم ممكن يعمل هذه الـ«كذا». لكنه يعملها. فنتفاجأ.
أتصور أن ما يجعل منا بنى آدمين هو قدرتنا على التماهى، نحن بنى آدمين بقدر ما نشعر بالبنى آدمين حولنا وبقدر ما نستطيع ــ ونرى أنه من واجبنا ــ أن نضع أنفسنا مكانهم، أن نرى الدنيا من خلال عيونهم. طيب، وماذا لو كان هذا من شأنه أن يجعلنا ضعفاء؟ بمعنى أننا نترك الفرصة للآخر أن يصيبنا فى مقتل ــ أو على الأقل يصيبنا بجرح غائر ــ بينما نحن نحاول أن نفهمه أو نفهم وجهة نظره أو نقف عاجزين عن تصديق أنه لا يحاول أن يفهمنا ــ لا يرى داعيا أساسا لأن يفهمنا ــ أو ربما يتصور أنه يفهمنا «أولريدى» كما يقولون فى برامج الـ«تشات شو». (هل لاحظتم الازدياد فى تطعيم الحديث بالمفردات الإنجليزية فى البرامج الحوارية مؤخرا؟ وبالتزامن مع الظهور الكثيف للتيار السياسى ذى المرجعية الدينية؟ قال أحدهم منذ يومين «ريجاردلس». سبحان الله! و«بغض النظر» راحت فين؟)
فى مرة حاولت محاورة مستوطنا صهيونيا، وكان ضمن ما سألته: «هناك رجل عربى، يشبهك، يعيش فى بلاده ويراك تعتدى عليها وتسرق أرضه وموارده يوما بعد يوم. ماذا تفعل لو كنت مكانه؟» قال: «لست فى مكانه». قلت: «لو وضعت نفسك فى مكانه؟» قال: «لا أضع نفسى فى مكانه». قلت: «ولا للحظة؟ كيف؟» قال: «ليست وظيفتى أن أضع نفسى مكانه. وظيفتى من الله أن أمسك بهذه الأرض التى وعدنى بها الله».
يذكرنى بهذا ما يحدث فى مصر الآن. هل يروننا أعداء فى الوطن؟ هل يتصور فصيل الدكتور مرسى، والموالون له، أن عناصر الثورة التى اضطرت إلى انتخابه رئيسا، والتى أعطته أصواتها عطاء مشروطا، تلك العناصر التى يمثلها شهيدنا «جيكا» مثلا، سوف تترك لهم البلاد، يصفونها ويحكمونها ويدسترونها ويقننونها ويديرونها على مزاجهم؟
لن يحدث.
إن كان الخطأ خطأ فى الفهم، فلعل الوضع قد اتضح مع هذه النسبة العالية جدا للأصوات الرافضة للدستور ــ الأصوات التى نجحت فى أن تسجَّل وتُحصَى رغم المصاعب والتجاوزات. لا مجال الآن لعدم الفهم: حجم واتساع القطاع الرافض لهذا الدستور، والرافض للآلية التى أوصلتنا إليه، يجعل استقامة الأمور فى البلاد مستحيلة إن أصر النظام الحاكم على تمريره، لأنه إن مر فلن يزيدنا إلا انقساما واستقطابا، وحرام ان البلد الذى استطاع ان يقوم بثورة يناير يصل لأن يتقاتل أبناؤه فى الشوارع.
فى سبتمبر ٢٠١١ كتبت مقالا يتساءل حول «الحاجة الملحة للدستور» ــ أعود إليه الآن:
«الحقيقية ان الثورة لم تقم من أجل الدستور بل قامت من أجل أن تضع حدا للخراب المستعجل الذى ابتليت به بلادنا والذى كان يحجب أى أمل فى أن يعيش شعبها حياة حرة كريمة. مصر قامت، كالجسم الحى، ينتفض ليطرد جراثيم وطفيليات تستهلكه وتمرضه وتكاد تقضى عليه. ثم اختلف أبناؤها على بروتوكول العلاج.. والأسئلة والإشكاليات المتعلقة بالدستور هى أكثر ما أحدث انشقاقات ــ أو أكثر شىء أمكن استخدامه لإحداث انشقاقات ــ فى الصف الوطنى بعد رحيل رأس النظام السابق، أى فى الفترة التى كان مطلوبا فيها من الكل أن يتوحد ليحمى إنجاز الثورة، ويدفع بها نحو الخطوات العملية التى تساعد على ترسيخ مبادئها ووضع قدميها علـى بداية الطريق نحو أهدافها».
«فما هى أولويات مصر الآن؟ أليس من البديهى ان تكون أولوياتنا الآن هى الشروع فى تحقيق الأهداف الكبرى للشعب كما عبر عنها وصاغها؟ مرة «عيش، حرية، عدالة اجتماعية» ومرة «تغيير، حرية، كرامة إنسانية». وهل يجوز تعطيل كل هذا والتركيز على كتابة دستور ــ من المفترض أن يكون الوثيقة الأكثر توافقية، والأكثر تعبيرا عن روح البلاد ــ ونحن فى حالة سباق مع الزمن وتحوطنا المشاحنات الداخلية والمخاطر الخارجية؟».
«دستور البلاد لا يفترض أن يُعَبِّر عن آراء واتجاهات كتلة معينة، ولا عن أيديولوجة فصيل معين، حتى وإن كان فى الحكم وقت صياغته، بل هو يُعَبِّر عن روح الأمة كلها وتطلعات الشعب كله: كيف يُحِبّ أن يكون، كيف يُحِبّ أن يوصف، كيف يرغب لبلاده أن تكون ــ فمن المنطقى أنه كلما ساهم الناس بأطيافهم وفئاتهم فى وضعه (وإن كان بالطبع للصياغة أهلها) كلما كان وثيقة أكثر ثقلا وأعمق أصالة. وعلى هذا فالدستور يصف المبادئ العريضة لتوجهات البلاد، فهو لن ينص، مثلا، على فرض ضرائب تصاعدية على الدخل، ولن نجد فيه تقنينا لتعاملات البورصة، ولن يشرح لنا كيف نعمر سيناء لا كيف ننهض بالتعليم. كل هذا يجب أن يأتى بأن تحدد القوى السياسية رؤيتها لهذه القضايا وتبلور رؤيتها فى برامج ومشروعات تطرحها على الناس والناس تنتخب منها ما تراه الأصلح. أى أن علينا جميعا أن نعمل بجدية على الانتخابات البرلمانية القادمة ونحن مطمئنون أن البرلمان القادم، والحكومة الناتجة عنه، سيكون لها أن تبدأ فى تشكيل التنمية والاقتصاد والأمن والتعليم والصحة والعلاقات الخارجية التى أولاها الشعب صلاحية التحكم فيها.
وعلى هذه الأرضية من التفَكُّر والابتكار والتغيير والعمل الفعلى يمكننا استعادة الثقة فى أنفسنا وفى بعضنا، ويمكننا وقتها أن نعمل على مهل، و«نكتب دستورنا»، فتكون كتابة هذا الدستور مشروعا وطنيا كبيرا، يجمعنا ويعبر عنا وعن عبقرية بلادنا».