في ظلال الأكاسيا - سيد محمود - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 3:00 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

في ظلال الأكاسيا

نشر فى : الثلاثاء 19 ديسمبر 2023 - 7:30 م | آخر تحديث : الثلاثاء 19 ديسمبر 2023 - 7:30 م

تشهد القاهرة موسما تشكيليا متميزا، ويحتار هواة الفن وراغبو الاقتناء فى حسم خياراتهم سواء بالمتابعة والمشاهدة والاقتناء، والمؤسف حقا أن حجم المتابعة النقدية لهذا التنوع والثراء لا يزال أقل من المتوقع بكثير.
ويندر أن يجد الراغب فى ترقية ذائقته الفنية ما يسد حاجته ويشبع اهتمامه وهو ما يؤكد من جديد ضرورة معالجة هذا النقص الفادح فى أعداد النقاد المؤهلين حتى يتم ضبط إيقاع حركة العرض والاقتناء فى مصر، وهذه مسألة ضرورية ولا ينبغى تركها لحركة السوق لأنها ليست دائما منصفة. وقد لفت نظرى أخيرا المعرض الفنى المتميز الذى نظمته قاعة أوبنتو تحت عنوان (ترنيمة الوادى) للفنان الشاب أحمد يحيى البدوى المدرس المساعد بقسم التصوير فى كلية الفنون الجميلة بالقاهرة، وهو أول معرضه يقيمه بعد عامين من فوزه بجائزة الدولة التشجيعية.
وفى هذا المعرض تجلت إمكانياته الفنية بوضوح وبدا جليا أنه فنان متمهل يعرف تماما ما يرغب فى بلوغه، تتسم لوحاته بنوع من الأناقة الأسلوبية التى يسهل الاستدلال عليها انطلاقا من قوة الخطوط إلى جانب مهاراته فى بناء اللوحة وتفادى عثرات البدايات.
 وأول ما يلفت النظر فى المعرض حرصه على بناء سردية بصرية متتابعة وكأنه يرغب فى تقديم حكاية متجانسة بما يشير إلى رغبته فى العمل بوعى المصمم السينوغرافى الذى يشكل مشهدا متكاملا ربما يفوق طاقة اللوحة ذاتها أو يتخطى إطارها.
 ويمكن تقسيم المعرض إلى مجموعتين، الأولى هى مجموعة سانت كاترين والأكاسيا والثانية هى مجموعة الفتيات ذوات الرداء الأبيض وهى مجموعة رسمها الفنان تحت تأثير رحلة قام بها إلى مرسى علم.
وفى المجموعة الأولى اعتمد البدوى على استعمال الموديل وتحريكه على خلفيات مستوحاة من الطبيعة فى سانت كاترين، واستعمل الفوتوغرافيا كمرجعية يلجأ إليها لحفظ المشهد واستدعاء المفردات التى يرغب فى تصويرها وفق طريقته المتأملة والمتمهلة كذلك. وأعطت الأجواء التى شكلتها اللوحات فى تتابعها انطباعا بروحانية الموضوع الذى يشغله، وهو أمر يختلف كثيرا عن  الرؤية التى ترجح وقوع الفنان تحت سطوة الموضوع الدينى لأن ما شغله  بالفعل هو أن يدفع أكثر بعناصر الأسطورة المرتبطة ب(الأكاسيا)، فهى نباتات لا تعمر كثيرا رغم سرعة نموها والشاهد أن الفنان جعل بطلاته اللواتى يقفن إلى جوار أشجار الأكاسيا وتحت ظلالها فى علاقة تكاملية ليؤكد سطوة هذه المفارقة، ولعب بالتالى على التناقض بين سرعة النمو وسرعة الذبول، وانشغل بالتوهج الذى يعقبه شىء من الانطفاء ووجد فى الأكاسيا المجاز الدال على هذا المعنى.
وفى هذا الإطار سعى الفنان لتأكيد جبروت الجبال وقوة رسوخها فى اللوحة كما فى الطبيعة، فتحولت الخطوط إلى كتل واضحة تشير إلى انشغاله بقوة البناء كما يصعب على الناظر فى لوحاته تفادى مهارته الفائقة ليس فقط فى العناية بالأسطح وإنما التعامل مع الخلفيات التى تمثل بعدا مهما فى التعاطى مع لوحاته.
وتقدم لوحات المجموعة الثانية سيدات يرتدين أردية بيضاء عبر معالجات مختلفة، لا تقوم فقط على تحريك الموديل وقد أراد الفنان عبرها أن يستعرض مهاراته بوضوح، ففى واحدة من أكثر لوحات المعرض تميزا أظهر الموديل وهى ترتدى الرداء الأبيض وتضع شالا فوق رأسها وخلفها إطار من الخوص المزخرف، وهذه اللوحة تمثل درسا بليغا من دروس المهارة والحرفية التى قدمها أحمد يحيى البدوى لأنها تشير ببساطة إلى قوة صبره فى عملية الزخرفة الخاصة بوحدات إطار الخوص ومن جهة أخرى تكشف تألقه فى صياغة العلاقات اللونية بين زخارف الرداء الأبيض وألوان شال الجملين المستعمل فى مرسى علم. 
وفى لوحات أخرى اشتغل الفنان بكفاءته المعتادة فى التعامل (اللاند سكيب) ومع الخطوط الأفقية والخلفيات فضلا عن العناية بالخطوط والظلال وهى عناية كانت تميز لوحات حسن سليمان كما كانت تميز أعمال المعلم الأكبر بيكار فى تفكيره الاستثنائى فى بناء اللوحة وفقا لمفاهيم التصوير الجدارى كذلك استفاد من أساتذته المباشرين أمثال محمود أبو العزم وإبراهيم الدسوقى لكنه طور وعيه بالتكنيك لاسيما فى التعامل مع قوة الخط ومال ناحية تأكيد عذوبة الخامة التى يستعملها، وهى خامة الكتان، فضلا عن تأكيد البعد الروحى والأسطورى للموضوع الذى يصوره ومنحه عمقا فى الزمن زاد من القيم الجمالية فى اللوحاته.
والمؤكد أن البدوى لم ينشغل بتقليد أحد من الفنانين الرواد، قدر ما انشغل بالإعلان عن موهبته الكبيرة، فهو على حداثة عمره وطزاجة تجربته أثبت قدرته على تقديم وصفة خاصة تتسم بالابتكار ووضوح الرؤية.