تعانى أوروبا هذه الأيام آلام صداع شديد يطلق عليه المسئولون الأوروبيون تعبير المسألة اليونانية. اليونان الدولة التى لا يزيد نصيبها فى الناتج القومى الأوروبى على 2٪، تهدد وجود منطقة اليورو، كما تهدد أحد أهم أركان الوحدة الأوروبية، حلم النخب الأوروبية على امتداد القرون. قرأت من يماثل علاقة اليونان الراهنة بأوروبا فى قصة العصفور الذى يستطيع، رغم نعومته وعذوبة صوته إثارة الفوضى فى منجم انحبس داخله.
لا أحد فى أوروبا أو فى العالم يستطيع أن يزايد على خبرة هذا العصفور وتراثه. هنا فى اليونان اخترعت البشرية كلمة ومفهوم الديمقراطية. ولكن هنا أيضا اخترعت كلمات ومفاهيم الطغيان والأرستقراطية والملكية، وربما أيضا الفوضوية والحرب الأهلية. صنعت اليونان القديمة الديمقراطية، لكنها فى الوقت نفسه بالغت فى استخدام العنف. كانت المدن اليونانية تتقاتل بوحشية دفعت أفلاطون فى «الجمهورية» إلى التوجه إلى أهل المدن بنصيحة ألا يحرقوا مدن أعدائهم ويرتكبوا أعمالا وحشية. وكان أفلاطون أشد من وجه النقد إلى الديمقراطية، وحذر من أنها يمكن أن تتدهور لتتحول إلى حكم الغوغاء. وجاء بعده فلاسفة تنبأوا بأنها يمكن أيضا أن تتحول إلى الأناركية، أى إلى حكم الفوضى. هنا فى اليونان نشأت أوروبا، وهنا فى اليونان تشتعل أزمة تشد إلى أتونها بقية أوروبا، وقد تسعى ألمانيا للتخلى عنها. يسأل جوناثان جونز الكاتب فى الجارديان البريطانية : هل تكون نهاية أوروبا على الأرض التى نشأت فيها، أرض اليونان؟
●●●
كنا خلال الأيام القليلة الماضية شهودا على حرائق اشتعلت فى مؤسسات ومرافق حكومية وخاصة فى العاصمة أثينا، وشهودا على مظاهرات واحتجاجات اجتمع فيها فقراء يقول أكثرهم إنهم لا يذكرون أن مرت بهم أيام لم يذوقوا فيها طعم الأكل كالأيام التى يعيشونها الآن، ومعهم عشرات الألوف من أبناء وبنات الطبقة الوسطى، أكثرهم أيضا عاطل عن العمل لأربع سنوات، هى عمر الكساد الذى ضرب اليونان كما ضرب دولا رأسمالية أخرى. كل هؤلاء، وغيرهم، يثورون رفضا للضغوط التى تمارسها ألمانيا ومجموعة الترويكا، المشكلة من المفوضية الأوروبية وصندوق النقد الدولى والبنك المركزى الأوروبى، على حكومة اليونان الائتلافية. تطلب الترويكا الموافقة على خطة تقشف أشد قسوة من كل الإجراءات التى اتخذت حتى الآن شرطا لإعفاء اليونان من إعلان الإفلاس. أما الاستعجال والضغوط المتزايدة فالسبب وراءها أن قسطا من أقساط الديون بقيمة 14.5 مليار يورو يحين موعد سداده الشهر المقبل، وفى حال الامتناع عن سداده تعلن المؤسسات الدولية إفلاس اليونان. لذلك تقترح الترويكا أن تقدم ما يعادل 130 مليار يورو لليونان لمساعدتها على الخروج من الأزمة الضاغطة مقابل الالتزام قبل يوم 20 مارس بقبول الإشراف الخارجى على برنامج كامل لإعادة هيكلة الاقتصاد اليونانى وزيادة إجراءات التقشف.
لا شك أن الفقر دافع رئيسى للثورة المستمرة التى هزت أركان اليونان لأسابيع متعددة، ولكن يتضح الآن أن صعود المشاعر الوطنية يلعب دورا لا يقل أهمية عن تدهور الأحوال الاجتماعية والاقتصادية، وقد تركزت هذه المشاعر لتأخذ شكل عداء سافر لألمانيا، باعتبارها الدولة التى تقود منطقة اليورو، وفى يدها وحدها خلاص اليونان من أزمتها المالية. ولا يخفى أن لألمانيا مكانة خاصة فى تاريخ اليونان، مكانة لا تحسد عليها. فاليونانيون توارثوا ذكريات التعذيب والقمع التى خلفتها السنوات من 1941 إلى 1944هى سنوات الاحتلال النازى لليونان، توارثوا أيضا قصة القادة الأوروبيين الذين أرادوا فى منتصف القرن التاسع عشر تهدئة الاضطرابات فى اليونان فاختاروا نبيلا ألمانيا من مقاطعة بافاريا ليتولى حكم اليونان بعد منحه التفويض اللازم لاستخدام القسوة المناسبة مع شعب اشتهر بالعنف والتمرد.
لا غرابة أننا شاهدنا فى الرسائل الإعلامية الصادرة من أثينا ملصقات ولافتات يحملها المتظاهرون تظهر فيها السيدة إنجيلا ميركل مرتدية ثياب ضباط ألمانيا النازية، وفى الملصق رسموا الصليب المعقوف، رمز النازية، خلفية لصورتها.
●●●
ومع ذلك، يجب الاعتراف بأن حالة صعود المشاعر الوطنية المتطرفة لا تقتصر على اليونان، ففى معظم أنحاء أوروبا صحوة قومية، كانت واضحة فى اضرابات إسبانيا وإيطاليا وأوروبا الشرقية، وكانت واضحة فى الشعارات التى رفعها الاشتراكيون الفرنسيون ردا على إعلان إنجيلا ميركل دعمها لساركوزى رئيسا لفرنسا مرة ثانية. وبدت واضحة، وإن بهدوء، فى دعوة أهل اسكتلندا للانفصال عن المملكة المتحدة وإقامة دولة خاصة بهم. يحمل هذا التطور القومى الكاسح مغزى خطيرا، بل لعله يمثل انقلابا سياسيا على صعيد القارة. إذ يعنى أن الأوروبيين فترت حماستهم لفكرة الوحدة الأوروبية ومؤسساتها، بما فيها الاتحاد الأوروبى والعملة الموحدة، وبالفعل لفت نظرى وآخرين تجاهل أوروبا الاحتفال بذكرى توقيع اتفاقية ماستريخت، وهى الذكرى التى حلت منذ أيام وسط مظاهر شتى للقلق على مصير منطقة اليورو، بل ومصير الوحدة الأوروبية ذاتها.
●●●
كان لابد أن يؤثر فى الألمان مظاهر عدم الرضاء عليهم من جانب شعوب وأحزاب أوروبية، ويدفعهم لإعادة النظر فى سياساتهم الأوروربية ودورهم فى عالم يتحول. ثم وقع فى مؤتمر الأمن الذى عقد مؤخرا فى ميونيخ ما أكد أن ألمانيا تقف فعلا عند مفترق طرق سوف يتحدد عندها مصيرها كدولة من دول القمة العالمية.
يقول ستيفن هادلى، الباحث الاستراتيجى المعروف، تعليقا على أوضاع الحلف الغربى ودور ألمانيا فيه ما معناه أن ألمانيا اكتشفت أن المسئوليات المترتبة على عضويتها فى الحلف الغربى ستكون باهظة التكلفة لو أنها وافقت على مطلب الولايات المتحدة لها، وبقية الأوروبيين زيادة أنصبتهم فى ميزانيات الدفاع وتحمل مسئولياتهم كقادة فى النظام الدولى. لم يعد خافيا أن أداء أوروبا فى الحملة الأطلسية على القذافى فى ليبيا كان دون المستوى، وأن غياب الألمان فى المشاركة فى أنشطة تدخلية من هذا النوع فى وقت تغيب الولايات المتحدة هى الأخرى لتتفرغ لآسيا والمحيط الهادى، من شأنه أن يجعل الدفاعات الغربية، وقدرة الغرب على التدخل الخارجى. ضعيفة وتفتقر إلى المصداقية.
●●●
عدد من العوامل يدفع القيادة السياسية الألمانية لمناقشة مسارات جديدة للسياسة الخارجية لبرلين، أولها عدم الرضاء الشعبى فى أوروبا عن «هيمنة» ألمانيا وأساليبها فى التدخل فى الشئون الداخلية لدول القارة. ثانيها تصاعد المشاعر غير الودية من جانب قطاعات فى الرأى العام الألمانى تجاه دول وشعوب جنوب القارة، واتهامها بالإهمال والكسل والفساد السياسى وسوء إدارة الاقتصاد، وكلها حسب رأى الألمان أوجه عجز تتحمل تكلفتها فى النهاية الميزانية الألمانية. ثالثها الضغط المتصاعد من جانب الولايات المتحدة على القيادة الألمانية لتتحمل مسئولية أكبر فى قيادة المجتمع الدولى والمشاركة فى أداء مهام الشرطى العالمى. رابعها، اقتناع متزايد لدى عدد متزايد من كبار الصناعيين ورجال الأعمال الألمان بأن مستقبل ألمانيا يجب أن يكون ضمن مجموعة دول صاعدة وواعدة، مثل الصين وروسيا والبرازيل والهند، وليس مع دول قديمة ومتهالكة بنصيب متضائل فى التجارة الدولية، مثل مجموعة الدول الأوروبية.
●●●
لا حل سريعا للأزمة اليونانية ولا نية معقودة فى برلين على بذل تضحيات أكبر للمحافظة على منطقة اليورو أو لمساعدة دول أوروبية متعثرة، لكننا أمام احتمال قوى بأن تقرر ألمانيا الاستغناء عن مكان يعد لها فى الصف العلوى من القمة الدولية والانضمام بدلا عنه إلى مجموعة الدول متوسطة القوة، ولكن شابة ومتجددة وخلاقة، مثل البرازيل وروسيا والهند والصين، وهى فى الوقت نفسه معفاة من تحمل مسئوليات القيادة الدولية وتكلفتها.