أطاحت الثورة بحكام تجبروا وأطاحت بعادات اعتدنا ممارستها. كنا مثلا مجموعة أصدقاء نجتمع بانتظام فى أماكن بعينها لنناقش الأمور التى لا تسمح ظروف العمل والمجتمع طرحها فى صالونات بيوتنا أو فى مطاعم ومقاهى. نشبت الثورة وانقطعت هذه العادة شهورا غير قليلة. انتبهنا لهذه القطيعة فقررنا استئناف اجتماعاتنا ولتكن أولى الأمور التى سنطرحها للنقاش هو ما فعلته الثورة بعادات الناس وأمزجتهم والعلاقات بينهم. اجتمعنا وتدرج النقاش صعودا وهبوطا، وإذا بواحد منا يطلب مناقشة فرضية توصل لها أوجزها فى عبارة قصيرة. قال «هذه الثورة سبب أساسى بين أسباب أخرى فجرت ظاهرة الزيادة فى الخلافات الزوجية عددا وعنفا».
•••
كان فى مجموعتنا منذ سابق الأيام خبراء فى الموضوع تصادف حضورهم اجتماعنا هذا. أحدهم اكتسب الخبرة مثل آخرين من حقيقة أنه زوج وأخرى باعتبار أنها كانت زوجة لفترة ولم تعد كذلك، أما الثالث فقد اكتسب خبرته بحكم مهنته وتخصصه العلمى الأكاديمى.
•••
بدأنا بسيل من اعترافات تعزز الاقتناع السائد بأن الخلافات الزوجية شر ملازم للزواج. لا زواج بدون خلافات. الفرق الأساسى بين زواج وزواج هو عدد مرات الخلاف وطول مدته وشدته. لم يتردد الخبير الاجتماعى فى أن يتدخل بين كل مداخلة وأخرى للتأكيد علينا بعدم تضخيم الأمور قائلا إنه لا يوجد ما يخجل منه الزوجان إذا اشتبكا فى خلاف، ولا يجوز أن يحكم زوجان على زواجهما بالفشل إذا تعددت الخلافات بينهما طالما ظلت داخل إطار الاحترام المتبادل.
ما أشبه خلافات المتزوجين بنزاعات الدول. هكذا تطور النقاش. طرح أحدنا فكرة أنه كما توجد نزاعات بين الدول، بعضها ممتد وبعضها غير قابل للحل توجد أيضا خلافات عائلية ممتدة وبعضها غير قابل للحل. بل تكاد تتشابه كذلك مصادر النزاعات، فالدول تشتبك أحيانا فى نزاعات بسبب اختلاف أمزجة الحكام وأهوائهم، وهو السبب الشائع جدا وراء العديد من النزاعات فى النظام العربى، وقد تشتبك بسبب الاختلاف فى الطبقة الاجتماعية التى تنتمى إليها النخب الحاكمة.
أقل النزاعات شأنا وعنفا هى تلك التى تتعلق باختلاف الأمزجة والأهواء، وأكثرها حدة هى تلك التى يكون السبب فيها اختلاف الدين أو الغيرة المزمنة والمرضية والعلاقات التى تقام مع الغير وكذلك الخلافات التى يكون السبب فيها مسائل تتعلق بالثروة المادية. تكاد الخلافات الزوجية تنشب وتتصاعد أو تهدأ لأسباب مشابهة لتلك التى تنشب بسببها وتتصاعد أو تهدأ النزاعات بين الدول.
•••
تدخل متخصص برأى له وجاهته، قال إن الزيادة الرهيبة فى عدد الخلافات الزوجية فى عهد الثورة تعود إلى حالة القلق التى يعانى منها أفراد المجتمع. لقد خلقت «الظروف الخاصة» للثورة المصرية انطباعات غامضة عن المستقبل، سواء كان مستقبل الفرد أم مستقبل الوطن. خذ مثلا، الحديث المتكرر فى المرحلة الحالية من الثورة فى بيوت عديدة عن الهجرة. هذا الحديث أضحى فى حد ذاته مصدرا لخلافات امتدت من رأسى العائلة إلى جميع أعضائها، وأضفت نوعا من الكآبة على الأجواء والاجتماعات والمناسبات الأسرية. قارن هذه الحالة بحالة التفاؤل التى عمت البلاد فى الأسابيع الأولى للثورة وكان تأثيرها إيجابيا وهبطت فيها الخلافات العائلية إلى أدنى حد.
•••
يميل خبير آخر فى محاولته تفسير ظاهرة الزيادة فى الخلافات الزوجية إلى تحميل التغيرات الاجتماعية المسئولية. يقول إن السنوات الأخيرة شهدت تداخلا وتشابكا بين أدوار الأزواج والزوجات إلى حد أزال «حاجز التمييز» داخل الأسرة، وهو الحاجز الذى حافظ على مبدأ التنوع وتقسيم العمل وتوزيع الأدوار بين الرجل كزوج وأب وصديق وراع والمرأة كزوجة وأم وأنيسة و«تجميعية» . أشار خبير آخر إلى أن الثورة بصفتها متغير اجتماعىمسئولة لأنها كشفت للمرأة المصرية مدى الظلم الواقع عليها من جانب قوى عجزت عن العيش فى مجتمع عصرى يسوده المساواة بين الناس فراحت تستخدم الدين أداة للقهر وقمع المرأة وإخضاعها لمشيئة رجل.
•••
قامت جامعة ستانفورد بالتعاون مع كلية ريديمر بالولايات المتحدة بإجراء دراسة موسعة شملت المئات من الحالات الهدف منها التوصل إلى حلول للخلافات الزوجية قبل استفحالها وتخفيض معدلات تكرارها.
تعددت الاقتراحات الواردة فى الدراسة وراق لى أحدها. تقترح الدراسة أنه فى حالة نشوب خلاف بين زوجين، وقبل تفاقمه، يلجأ أحدهما إلى ورقة يكتب عليها بخط يده رسالة إلى الطرف الآخر متقمصا شخصية طرف ثالث غير منحاز. يبذل كاتب الرسالة جهدا خاصا ليتقمص شخصية شخص لا ينحاز لأى طرف فى الخلاف فيبدى فى الرسالة تفهما لمواقف الطرفين ويناقش بموضوعية أسباب الخلاف ويسلمها أو يبعث بها إلى الطرف الآخر. لن تكون رسالة اعتذار، بل رسالة من شخص متفهم.
•••
الاقتراح جيد ويؤكد الباحثون الذى أجروا الدراسة أنه حقق نتائج طيبة فى إصلاح ذات البين فى كثير من الحالات. مشكلته الوحيدة لو طبقناه فى مصر ستكون فى أن أحدا تحت الأربعين، زوجة أو زوج، لم يكتب رسالة بخط يده للآخر ربما منذ تعارفا. أعرف زوجات وأزواج ومخطوبات ومخطوبين لم يكتب أحدهم فى حياته بخط يده رسالة شخصية. فما بالك برسالة تحاول أن تشرّح خلافا وتعرض حلولا وتسرب مشاعر عاطفية.