هل الخلافات الأمريكية الإسرائيلية أكثر من مجرد زوبعة في فنجان؟ - أيمن زين الدين - بوابة الشروق
الأربعاء 21 مايو 2025 12:04 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

هل الخلافات الأمريكية الإسرائيلية أكثر من مجرد زوبعة في فنجان؟

نشر فى : الثلاثاء 20 مايو 2025 - 6:50 م | آخر تحديث : الثلاثاء 20 مايو 2025 - 6:50 م

 

انشغل الإعلام خلال الأيام الأخيرة بالجفوة الكبيرة بين الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية، وبشكل خاص بين رئيسها بنيامين نتنياهو والرئيس الأمريكى دونالد ترامب. وتكتسب هذه الجفوة أهميتها من كونها سُرِّبت عمدًا من داخل إدارة ترامب، وغالبًا بتوجيه منه شخصيًا، ولامتدادها إلى عدد من المسائل الاستراتيجية الجوهرية فى علاقات البلدين، مثل: الاتصالات الأمريكية المباشرة مع حماس، والعودة للتفاوض مع إيران حول برنامجها النووى دون إغلاق الباب أمام احتفاظها بقدرة على تخصيب اليورانيوم، ورفض ترامب الاستجابة لرغبة إسرائيل فى توجيه ضربة عسكرية لإيران؛ إضافة إلى اتفاق واشنطن مع الحوثيين على وقف لإطلاق النار لا يشمل إسرائيل ولا السفن المتجهة إليها، وقت كانت تل أبيب تأمل فى دعم أمريكى للقضاء كليًا على قدرات الحوثيين العسكرية.

كما شملت الخلافات تخلّى واشنطن عن ربط استجابتها للمطالب السعودية العسكرية والأمنية بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وما أبدته من مرونة إزاء التعاون مع السعودية فى برنامجها النووى الذى تصر الأخيرة على تضمينه تخصيب اليورانيوم، رغم معارضة إسرائيل. هذا بجانب تزايد الخلاف حول حرب غزة، وجهود وقف إطلاق النار وإنهاء الحصار. وأخيرًا، إعلان ترامب عدم زيارة إسرائيل ضمن جولته فى المنطقة ما لم يقترن ذلك بوقف لإطلاق النار.

• • •

صحيح أن هناك سوابق لمثل هذه المواجهات، كما جرى بين أيزنهاور وبن جوريون وقت العدوان الثلاثى، وبين ريجان ومناحم بيجن وقت غزو لبنان، وبين بوش الأب وشامير فى ما يخص الاستيطان ومؤتمر مدريد، وكذلك بين أوباما ونتنياهو بسبب الاتفاق النووى الإيرانى وقرار مجلس الأمن التاريخى 2334؛ إلا أن تلك كانت استثناءات مؤقتة، سرعان ما كانت تعود بعدها الولايات المتحدة إلى موقعها كأهم داعم استراتيجى لإسرائيل وأهدافها وسياساتها دون شروط تذكر.

الحقيقة أنه لا يوجد حتى الآن ما يشير إلى أن هذه الخلافات ستؤثر على استمرار الولايات المتحدة فى تزويد إسرائيل بكل ما تحتاجه من أسلحة كمًا ونوعًا، أو أنها ستحدّ من التضييق القانونى والأمنى على الأصوات المؤيدة لفلسطين فى المجتمع الأمريكى، أو من دعمها لإسرائيل فى المحافل الدولية كالأمم المتحدة والمحاكم الدولية أو فى ما يخص الأونروا.

لهذا رأى البعض أن هذه الأزمة ليست أكثر من سحابة صيف عابرة، أو حتى مسرحية يراد بها إنجاح جولة ترامب الخليجية، عبر إظهار مسافة ما بينه وبين إسرائيل، بما يساعده فى تحقيق المكاسب الاقتصادية التى يسعى إليها، على أن تعود المياه إلى مجاريها لاحقًا.

إلا أن تقارير إعلامية موثوقة تكاد تجمع على أن الأزمة حقيقية، لكنها ليست نتيجة لتحول فى مواقف ترامب من قضايا المنطقة، وإنما خلاف شخصى حاد سببه غضب ترامب من واقعتين اعتبرهما خيانة شخصية من نتنياهو: الأولى، كانت تهنئة نتنياهو السريعة لجو بايدن بفوزه على ترامب فى انتخابات 2020، التى شكك ترامب فى نزاهتها، وهو ما ترك أثرًا بالغًا فى نفسه بعد كل ما قدمه له من هدايا كبرى كاعترافه بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية إليها، والاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان، وكلها خطوات خدمت نتنياهو سياسيًا. أما الواقعة الثانية، فكانت اكتشاف ترامب أن نتنياهو فتح قناة سرية مع مستشاره للأمن القومى من وراء ظهره، فى مسعى لتوجيه الرئيس نحو شن عملية عسكرية ضد إيران.

ويرى كثيرون أن هذه الواقعة الأخيرة كانت الحاسمة، إذ جعلت ترامب يشعر أنه لا يستطيع التعايش مع حليف أجنبى لا يقدّر إخلاصه ودعمه، ويتصور أن نفوذه فى أمريكا يفوق نفوذ الرئيس نفسه، ويتصرف بقدر من التعالى يجعله لا يتورع عن تحدى مواقف وسياسات رئيس الدولة التى يعتمد بشكل حيوى على دعمها المالى والعسكرى والسياسى.

• • •

لكن، أيًا تكن الأسباب المباشرة للأزمة بين هذين الحليفين، فإن السياق الذى تحدث فيه هو ما يمنحها أهميته. فما يميز هذه الأزمة عن سابقاتها هو وقوعها بينما تواجه إسرائيل حالة حرب، وأى رئيس أمريكى، بما فى ذلك ترامب، يدرك أنها لا تتحمل أن تظهر بمظهر الدولة المحرومة من الدعم والرضا الأمريكى على الصورة التى نراها حاليًا، لأن ذلك يهز بشدة من هيبتها الإقليمية والدولية، ويضعف مكانة رئيس وزرائها داخليًا. وهناك شواهد وسوابق تجعل من غير المستبعد أن يكون ترامب يسعى بذلك إلى التخلص من نتنياهو، بعد أن فقد ثقته واعتباره لديه.

إلا أن المتغير الأهم هو أن هذه الأزمة تأتى بعد فترة طويلة من التآكل التدريجى فى أسس العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، بفعل مجموعة من العوامل المتراكمة، يبرز منها ثلاثة عوامل. أولها هو التدهور المتسارع فى وضع وسمعة إسرائيل داخل المجتمع الأمريكى، وهى ظاهرة كانت قد بدأت فى السنوات الأخيرة من القرن العشرين وتسارعت بعد حرب غزة، حيث تجلت صورتها كدولة يمينية متطرفة تستخدم قوتها بشكل غاشم فى ممارسات عنيفة ظالمة، وتفقد سمعتها كديموقراطية صغيرة محاصرة. وقد أظهرت الاستطلاعات الأخيرة فى أمريكا أن النظرة الإيجابية لإسرائيل تراجعت إلى ما دون النصف، بينما ارتفعت النظرة الإيجابية للفلسطينيين إلى نحو الثلث، خاصة بين الشباب، والديمقراطيين، ويهود أمريكا. كما امتد هذا التراجع تدريجياً إلى قطاعات من أنصار الحزب الجمهورى، المؤيد الرئيسى لإسرائيل منذ مطلع القرن الحالى.

ثانى العوامل هو تراجع كفاءة وفاعلية الأداء الإسرائيلى عمومًا، وفى مخاطبة المجتمع الأمريكى خصوصًا، مع غياب القيادات القادرة على كسب الاحترام والثقة كما كانت فى الأجيال السابقة، وازدياد حضور القيادات المنفرة أو لا تدعو إلى الثقة، وتحوّل الخطاب الإسرائيلى من الحذر والفخر بتواضع لترك أفضل انطباع، إلى التبجح والغطرسة والاستحقاق.

أما العامل الثالث فيرتبط بالتحولات التى طرأت على مصالح أمريكا، وما تواجهه من تحديات غير مسبوقة لمكانتها الاستراتيجية وأوضاعها الاقتصادية نتيجة عوامل عديدة، أبرزها وأكثرها تأثيرًا هو صعود الصين، وما تفرضه المنافسة المعقدة معها. هذه التحولات تلقى بظلالها على الحسابات الأمريكية فى منطقة الشرق الأوسط، وتجعلها أكثر احتياجًا للدول العربية، خاصة الخليجية، التى أضافت إلى قدراتها المالية ثقلًا دبلوماسيًا لا يمكن إنكاره، بينما تزداد تبعات بقاء إسرائيل عبئًا ماليًا ودبلوماسيًا واستراتيجيًا وأخلاقيًا على كاهل الولايات المتحدة.

صحيح أن هذه العوامل لم تكن السبب المباشر للأزمة، لكنها وفرت الخلفية التى جعلتها ممكنة. ففى السابق، عندما كانت إسرائيل تحظى بدعم واسع وعابر للأحزاب فى أمريكا، كان أى خلاف للرئيس مع إسرائيل يجعله فورًا هدفًا لهجوم شديد، ويعطى منافسيه فرصة المزايدة عليه فى تأييد إسرائيل. أما اليوم، فقد أصبحت إسرائيل بتوجهاتها اليمينية المتطرفة، تعتمد أساسًا على دعم قواعد اليمين الجمهورى، بينما اتسعت الفجوة بينها وبين قواعد الحزب الديمقراطى، بما فى ذلك قطاع كبير من اليهود. هذا يجعل ترامب فى موقف مريح فى خلافه مع إسرائيل على نحو غير مسبوق، لتراجع قدرة اللوبى الصهيونى المناصر لنتنياهو على الضغط عليه بدعم الحزب الديمقرطى، ولصعوبة الدخول فى صدام معه وهو أكبر وأقوى قائد لليمين الجمهورى منذ ريجان، وربما فى التاريخ، وصاحب القدرة الفائقة على التأثير على السياسيين والناخبين، والذى لا يمكن اتهامه بمعاداة إسرائيل.

• • •

الخلاصة هى أن هذه الأزمة، وإن بدت ذات طابع شخصى أو مؤقت، إلا أنها كشفت تآكلًا تدريجيًا فى أسس العلاقة الأمريكية الإسرائيلية، وقد تفتح الباب أمام تحولات كبرى تطوى صفحة امتدت أكثر مما تبرره الحقائق، وتمهد لصفحة جديدة قد تتغير فيها المعادلات الاستراتيجية فى المنطقة.

لا يعنى ذلك أننا بصدد قطيعة أو نهاية للعلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل فى الأجل القريب، فهذه تقوم على قواعد قوية وعميقة ومتشعبة تجعلها قادرة على الصمود لفترة طويلة. وإنما نحن أمام شروخ حقيقية قد تؤدى إلى تغير طبيعتها، لكن مسار هذا التغيير سيكون طويلًا ومتدرجًا ومتذبذبًا، كما أنه ليس حتميًا، إذ لا تزال لدى إسرائيل فرصة تداركه إذا تمكنت من معالجة أسبابه، غير أن هذا لن يكون أمرًا يسيرًا لارتباطه بتغيرات عميقة طرأت على المجتمع الإسرائيلى.

• • •

المؤكد أن ما يحدث الآن يضع نتنياهو تحت ضغوط هائلة، حيث يصعب على أى رئيس حكومة إسرائيلية البقاء فى موقع عدائى بهذا الشكل تجاه الولايات المتحدة، كما لا يمكن لإسرائيل أن تجد نفسها مستبعدة من الترتيبات الإقليمية الكبرى التى تصوغها واشنطن. المشكلة -من وجهة نظر إسرائيل- هى أن الأمور بعد نتنياهو لن تكون أسهل كثيرًا، نظرًا لافتقادها القيادات السياسية القادرة على وراثة المسئولية بفاعلية داخليًا وخارجيًا، بجانب حدة الاستقطاب الذى يشل كفاءة النظام السياسى بين تيار يمينى دينى وقومى متشدد، أصبح الأكبر والأكثر نشاطًا، وبين الكتل الاجتماعية الحداثية التقدمية التى قد تكون أقل عددًا، لكنها الأكثر تأهيلًا اقتصاديًا وثقافيًا وحضاريًا، وهى التى تحملت عبء تأسيس ونجاح إسرائيل فى السابق.  هذا بجانب تأثيرات البعث المحتمل لما كان يُعرف بـ«معسكر السلام» فى إسرائيل، تحت وطأة التكاليف الإنسانية والاقتصادية للحرب وما سببته من عزلة دولية.

أخيرًا، فإن ترجمة هذه التحولات إلى مكاسب عربية تظل مرهونة بكفاءة الأداء الدبلوماسى العربى، ومدى استعداده لتجميد التطبيع، وتصعيد الضغوط على إسرائيل، ومساومة الولايات المتحدة على علاقاتها بها، وتشديد جهود ملاحقة إسرائيل القانونية الدولية، وتوسيع مساحة التعاطف العالمى مع الفلسطينيين، بما يجعلها أقرب لحركة مناهضة التمييز العنصرى فى جنوب إفريقيا فى الثمانينيات. 

أيمن زين الدين قانوني وسفير سابق
التعليقات