فى عواصم أوروبا، يدور الهمس حاليًا حول سؤال جوهرى: هل يكون فريدريش ميرتس، المستشار الألمانى الجديد، هو الزعيم الذى تفتقده القارة منذ عقود؟ السؤال لا يأتى من فراغ، بل من لحظة أوروبية تعانى من انكشاف استراتيجى، وضعف قرار، وفراغ فى القيادة.
منذ بداية ولايته، أطلق ميرتس وعودًا كبيرة: إعادة بناء الجيش الألمانى، مضاعفة ميزانية الدفاع، والارتقاء بالبلاد إلى مرتبة «أقوى جيش تقليدى فى أوروبا». لكنه يدرك أن أوروبا اليوم لا تحتاج فقط إلى جيوش بل إلى إرادة جماعية قادرة على صياغة قرار سيادى فى عالم لا يعترف بالفراغات.
هذا الشعور الأوروبى بالتيه عبّر عنه بدقة وسخرية ستيف ويتكوف، مبعوث الرئيس الأمريكى ترامب، عندما قال بعد لقائه مع بوتين فى مارس الماضى: «أوروبا تبحث عن تشرشل جديد»، قبل أن يضيف أن محاولات الأوروبيين لعب دور فى أوكرانيا أشبه بـ«استعراض فارغ». لم تكن ملاحظته مجرد تعليق عابر، بل صدمة أليمة لقارة لم تعد تملك صوتًا موحدًا فى قضايا أمنها المصيرى.
***
فى موازاة ذلك، كانت لندن تشهد لحظة رمزية، الإثنين الماضى، حين أعلن رئيس الوزراء البريطانى كير ستارمر ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين عن فصل جديد فى العلاقات الأوروبية البريطانية بعد خمس سنوات على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، تخلله توقيع اتفاقيات أمنية وعسكرية جديدة، ودمج لندن مجددًا فى بعض مشاريع الدفاع والتسليح الأوروبية.
لكن هذه العودة لبريطانيا، رغم أهميتها، لا تكفى وحدها لتغطية هشاشة القرار الأمنى الأوروبى الجماعى. وميرتس، مهما بلغت وعوده جرأة، لا يمكنه أن ينجح فى فراغ سياسى أوروبى. فالمعضلة الحقيقية ليست فى غياب الزعيم فحسب، بل فى غياب الإجماع.
أوروبا اليوم منقسمة حول أولوياتها الدفاعية، بين شرق يرى فى روسيا تهديدًا وجوديًا، وغربٍ يخشى التورط فى صراعات مفتوحة. وبينما تضغط دول البلطيق وبولندا من أجل تصعيد المواقف، تتردد دول كبرى مثل ألمانيا وإيطاليا فى تجاوز الخطوط الحمراء التى رُسمت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ولذا، فإن أى مشروع أمنى أوروبى جاد يتطلب ليس فقط إنفاقًا عسكريًا، بل أيضًا تسوية داخلية تُعيد تعريف ما تعنيه «السيادة الأوروبية» فى القرن الحادى والعشرين.
فى هذا السياق، يبرز ميرتس بخطابه الحازم ومحاولته إعادة تعريف الدور الألمانى. زار باريس ووارسو وكييف، مؤكدًا أن ألمانيا لن تكون شريكًا صامتًا بل محورًا أمنيًا فاعلًا. الأهم من ذلك، أنه يحاول صياغة ما يشبه «عقيدة ميرتس»، تقوم على إعادة بناء القدرات الدفاعية دون الانفصال عن الإطار الأوروبى، وتحقيق الاستقلال الأمنى دون تحدى الناتو.
• • •
وما يزيد المشهد تعقيدًا هو التنافس الصامت بين باريس وبرلين على من يقود مشروع الاستقلال الأمنى الأوروبى، ففرنسا، رغم امتلاكها الردع النووى، لم تستطع أن تترجم هذه القوة إلى مشروع أمنى أوروبى مشترك، فى حين أن ألمانيا، رغم قدراتها الاقتصادية والصناعية، ما زالت تتحسس خطواتها فى المجال العسكرى. وبين الطرفين، تبقى العواصم الأخرى إما متفرجة أو متشككة.
وهنا يغيب ما كان فى الماضى أحد أعمدة التوازن الأوروبى: القيادة الثنائية بين باريس وبرلين، التى شكّلت فى زمن كول وميتيران نواة الرؤية السياسية الموحدة للقارة. اليوم، لا مشروع مشترك واضح، ولا زعامة متناغمة، بل تنافس غير معلن على من يملأ الفراغ، وسط تحديات أمنية ضاغطة.
هنا فقط يظهر الفارق بين زعامة تاريخية تتشكل من رؤية وشجاعة، كما فى حالة الزعيم البريطانى التاريخى وينستون تشرشل، وزعامة مؤقتة تتغذى على الفراغ. وإذا كان ميرتس يريد فعلًا أن يكون أكثر من مجرد رجل أزمة، فعليه أن يتجاوز الانقسامات، ويقنع الأوروبيين أن أمنهم لا يمكن أن يُؤجَّل، ولا يُدار بالنيابة عنهم.
هل هو تشرشل المنتظر؟ ربما لا. فميرتس لا يملك كاريزما الحرب العالمية الثانية، لكنه قد يصبح زعيم اللحظة إذا ما استطاع أن يُحوّل الارتباك الأوروبى إلى مشروع يقظة. أوروبا لا تحتاج إلى أن تُقلد تشرشل، بل أن تكتشف زعامتها الخاصة، وأن تكتب استراتيجيتها بيدها، لا أن تنتظر ما يملى عليها من موسكو أو واشنطن.