يشهد عام 2019 لحظة فارقة فى مستقبل حلف شمال الأطلنطى المعروف اختصارا باسم حلف الناتو. وفى الوقت الذى تُطرح فيه أسئلة شديدة الأهمية حول جدوى وأهداف بقاء الحلف العسكرى الأقدم والأقوى فى التاريخ المعاصر، تسعى إدارة الرئيس ترامب لجمع حلفائها العرب مع إسرائيل لتشكيل حلف من نوع آخر يطلق عليه اختصارا «الناتو العربى».
***
مصدر التحديات التى يواجهها حلف الناتو الأصلى تنبع من رؤية الرئيس الأمريكى لدور الحلف وجدوى البقاء فيه ناهيك عن تكلفته المرتفعة لواشنطن. ومنذ ظهور دونالد ترامب على الساحة السياسية الأمريكية قبل أربعة أعوام كمرشح رئاسى لعامين ثم رئيسا لعامين، عرفت واشنطن خطابا مغايرا تجاه الناتو. واستخدم المرشح ترامب لغة تصادمية غير مألوفة فى الحديث عن جدوى الناتو وعن التزامات الدول الأعضاء المالية وعن العبء الواقع على واشنطن والمتعلق بالدفاع عن القارة الأوروبية.
إضافة لترامب، يواجه الناتو تحديات متجددة تتمثل فى تجديد التهديدات الروسية للقارة الأوربية والتى بدأت إرهاصاتها فى جورجيا وأوكرانيا، ثم امتدت لتصل لانهيار معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى والتى التزمت بها موسكو وواشنطن لعقود طويلة. كما مثل التدخل الروسى العسكرى القوى فى سوريا، واستمرار التهديدات الإرهابية من ناحية، وزيادة الطموحات العسكرية للصين خاصة فى منطقة جنوب وشرق آسيا تهديدات إضافية. وأضاف خطاب ترامب المعادى للحلف تعقيدات واسعة فى العلاقات الأوروبية الأمريكية التى يراها الكثير من الخبراء الأمريكيين كحجر الأساس لمظلة أمنية تخدم مصالح جانبى الأطلنطى.
ومع تشكيك إدارة ترامب فى جدوى الناتو الحقيقى، تضغط واشنطن على أصدقائها العرب السنة من أجل تأسيس الناتو العربى. وجمعت واشنطن الأعضاء المتوقعين فى مؤتمر وارسو الذى جاء عاكسا لخريطة شرق أوسط جديد تأملها واشنطن ويلعب العرب فيها دورا هامشيا خادما لمصالح واشنطن وإسرائيل دون اكتراث بأى مصالح حقيقية للشعوب العربية. وتخفف واشنطن من وطأة الخلافات التى تجمع الأعضاء العرب المعنيين بالتحالف خاصة فيما يتعلق بعدم الاتفاق على تحديد مصادر التهديد التى تواجهها. ترى السعودية والإمارات والبحرين إيران كخطر كبير يجب مواجهته بكل السبل. وعلى النقيض لا تؤمن بقية دول التحالف بأن إيران تمثل الخطر الأول عليهم. كما يمثل انخفاض مستوى الثقة المتبادلة بين الدول الأعضاء تحديا آخرا أمام تشكيل أى تحالف. وتعمقت أزمة الثقة بين أطراف التحالف العربية على خلفية الأزمة الخليجية، ومن الصعوبة بمكان تصور تأسيس التحالف الاستراتيجى ما لم يتم حل الأزمة التى قربت على دخول عامها الثالث.
***
تذبذب موقف الرئيس ترامب من حلف الناتو خلال العامين الماضيين. وخلال حملته الانتخابية وخلال عامه الأول فى البيت الأبيض تبنى ترامب موقفا صادما للحلفاء الأوروبيين واصفا الحلف فى عدة تغريدات وخطب بأنه «عفا عليه الزمان» ولم تعد له حاجة. ثم انتقل ترامب لموقف أكثر عقلانية خلال عامه الثانى فى البيت الأبيض من خلال مطالبته أعضاء الناتو بزيادة مساهماتهم المالية وتأكيده على أهمية الحلف. وقال ترامب خلال كشفه عن استراتيجية الدفاع الصاروخى الجديدة للولايات المتحدة فى خطاب بالبنتاجون فى يناير الماضى «سنكون مع حلف الأطلسى 100%، ولكن كما قلت للدول أعضاء الحلف يتعين عليكم تغيير العتاد، وعليكم أن تدفعوا». وتعد الولايات المتحدة صاحبة المركز الأول فى نسبة الإنفاق العسكرى بين دول الحلف وتبلغ 3.5% من قيمة الناتج القومى الإجمالى، وتنفق أغلب دول الحلف نسبة أقل من 2% مع تعهد بأن تصل إلى نسبة 2% بحلول عام 2024 وهو ما يثير حفيظة الرئيس ترامب. وخلال عام 2018 بلغت قيمة المساهمة الأمريكية فى موازنة حلف شمال الأطلسى نحو 70% من إجمالى النفقات العسكرية للحلف.
لا تحتاج واشنطن لتأسيس تحالف جديد، ولا يحتاج العرب لتأسيس ناتو خاص بهم، إلا ربما حفنة منهم تؤمن بضرورة التودد لنتنياهو من أجل إرضاء واشنطن. ولا يدل ذلك فقط على جهل كبير بواشنطن، بل جهل بتوازنات الشرق الأوسط ذاتها. فى حين يعود الناتو الحقيقى بالفائدة على واشنطن، وللولايات المتحدة عشرات القواعد العسكرية والبحرية والجوية التى تحتفظ بها فى أوروبا، ويسمح الحلف لماكينة التصنيع العسكرى الأمريكى أن تغرق دول التحالف بأحدث ما تخرجه المصانع العسكرية الأمريكية.
***
فور سيطرة الديمقراطيين على مجلس النواب، بادرت رئيسة مجلس النواب نانسى بيلوسى باصطحاب عدد من الأعضاء يمثلون الحزبين والسفر لمركز الحلف الرئيسى بمدينة بروكسل للتأكيد على التزام بلادها بالتحالف الأقدم فى عالم اليوم. ثم دعت بيلوسى والسيناتور الجمهورى ميتش ماكونيل زعيم الأغلبية الجمهورية بمجلس الشيوخ الأمين العام للحلف السيد ينس ستولتنبرج لإلقاء كلمة أمام جلسة مشتركة للكونجرس الشهر القادم وهو ما يمثل صفعة للبيت الأبيض وترامب بصفة شخصية. ولا يخفى الكثير من الخبراء احتمال غضب ترامب على خطوة الكونجرس وقيامه باتخاذ قرارات متهورة كرد فعل. وطبقا لدراسة سكوت أندرسون بمعهد بروكينجز، «إذا رغب الرئيس ترامب فى الانسحاب من حلف الناتو فلن يستطيع الكونجرس إيقافه، ففى قضايا السياسة الخارجية للرئيس اليد العليا مقارنة بصلاحيات الكونجرس». ويبحث الكونجرس كذلك إصدار قانون يمنع الانسحاب من حلف الناتو الا بموافقة ثلثى أعضاء مجلسى الشيوخ والنواب، إلا أن هذه الفكرة تواجه مقاومة من أعضاء يرونها تعديا على سلطة الرئيس الدستورية.
***
قبل سبعين عاما، قال اللورد هاستينج إسماى الأمين العام الأول لحلف الناتو إن الحلف يهدف إلى «بقاء روسيا خارج أوروبا وأميركا داخل أوروبا وألمانيا داخل حدودها». ومع مرور سبعين عاما على تأسيس حلف الناتو ومرور ثلاثين عاما على انتهاء الحرب الباردة، يحكم واشنطن إدارة تشكك فى جدوى وأهمية الناتو فى وقت تسعى فيه لتأسيس ناتو عربى جديد.