هى ذات اللعبة القديمة المجرّبة من قبل كلّ المتلاعبين بالشعوب: إذا أردت أن ينسى الناس شيئا هاما فأشغلهم بأشياء آخر هامشية.
وهكذا، فمنذ اللحظة الأولى لظهور شرارة ربيع أمة العرب المبشٍّرة بوهج الانتقال العربى التاريخى من قرون أنظمة التسلُط السياسى ونهب ثروات الأمة إلى نظام يجسد شعارات الجماهير الثلاثة فى الكرامة الإنسانية والحرية والعدالة الاجتماعية... منذ تلك اللحظة والقوى المضادّة لذلك الحدث التاريخى، سواء فى الداخل أو الخارج، منصبُّة على إفشاله وذلك عن طريق حرفه من مساره الأساسى الواسع الجامع لملايين المواطنين إلى مسارات فرعية صغيرة متباعدة تنسى الناس أهداف وروعة ما فى المسار الواعد الكبير: أهداف الانتقال التاريخى إلى نظام ديمقراطى سياسى – اقتصادى – اجتماعى عادل يجسّد الشعارات الثلاثة فى الواقع وفى حياة المواطن المعيشية اليومية.
من هذا المنطلق، منطلق نسيان الجماهير العربية لهدف الانتقال إلى الديمقراطية والانشغال بأشياء أخرى، اجتاحت الأرض العربية موجة العبثية العدمية التى نراها ماثلة أمامنا.
•••
فى اليمن تفجَّر موضوع صراع الدولة الطائفى مع الحوثيين وصراع الدولة القبلى مع الانفصاليين الجنوبيين وانشغل الناس بالموضوعين ونسوا موضوع النضال من أجل نظام حكم ديمقراطى عادل.
فى مصر تراجعت ثورة يناير الجماهيرية المبهرة ضدّ حكم عسكرى – أمنى تسلّطى فاسد لينشغل الناس بهدف يعلو فوق كل أهداف يناير الديمقراطية، هدف شيطنة واستئصال جماعة الإخوان المسلمين وكل تمظهراتها الإسلامية السياسية الأخرى، وليتقبل الناس، باسم ضرورة ذلك الاستئصال، كلُّ مظاهر الاعتداء على أسس الديمقراطية التى خرجوا من أجلها.
فى سوريا قامت ثورة شعبية واسعة سلمية من أجل نفس المطالب الديمقراطية إيّاها، لكنّ البلادات والمخاوف المرضيّة من البعض والتآمر الواضح من البعض الآخر جاءوا بجحافل الجهاديّين التكفيريّين الذين دمّروا روح تلك الثورة السلمية وإمكانيات الانتقال إلى نظام ديمقراطى عادل، من خلال ممارساتهم البربرية وتخلُّف فهمهم وممارستهم لدين الإسلام، فنسيت جماهير سوريا الأهداف الديمقراطية الأولى لتنشغل بأهداف إطفاء حرائق داعش والنّصرة وأخواتهما وترميم الدّمار الهمجى الذى طال سماء سوريا وأرضها وتراثها وبنية مجتمعها.
فى بلدان الخليج العربى نجحت القوى المضادّة لأيُّ تغيير كبير فى بناء وترسيخ صراع سنّى – شيعى طائفى عبثى وغير إسلامى، فانشغل الناس بهذا الصّراع المتعمّد لينسوا تطلُّعاتهم الديمقراطية المشروعة ويضيعوا فى متاهات لغو وثرثرة وغمز ولمز قبلية ومذهبية متزمتة ومثيرة للفتن والأحقاد والبؤس الأخلاقى.
فى العراق، وآه على العراق ومن العراق، ضاعت أحلام الديمقراطية ونسيها الناس عندما أصبحت منتهى تطلُّعاتهم الآن إيقاف الزّحف المغولى البربرى القادم من الشمال تحت رايات داعش وأخواتها والمسحورين بتكبيراتها. وبعد إيقاف ذلك الزحف سينشغلون بحركة انفصال شمال العراق، وقيام دولة كردستان العراق، التى تسلّح الآن حتى الأسنان تمهيدا لتقطيع أوصال العراق فى المستقبل القريب. ولن يكون آنذاك وقت للديمقراطية، إذ سينشغل الناس بمعركة الوجود ووسائل خياطة الأوصال الممزّقة المتناثرة.
ومثل ذلك انشغال شعوب ليبيا بالصُّراع القبلى والجهوى، والسودان بمحاولات الاستمرار فى تمزيقه إربا إربا، ودول المغرب العربى بالقضية الأمازيغية، وتونس بحماية حدودها ضد جحافل برابرة القاعدة وحلفائها من بعض السلفيّين الذين لن يطفئ عطشهم لحرق الأوطان حتى مشاركة حركة النهضة الإسلامية لغيرها فى الحياة السياسية بفعالية بارزة، وفلسطين بمذابح غزة من قبل الاستعمار الصهيونى.
•••
فى كل الأرض العربية، وبدون استثناء، سيكون الهدف إشغال الناس وحرفهم عن المطالب الديمقراطية، بل وإقناعهم بطرق شيطانية بأن كل المصائب والمحن التى يواجهها الوطن العربى هى ناتجة عن الإيمان بالديمقراطية، وأنُّ حبل النجاة هو القبول بدولة التسلُّط الأمنى والنّهب الفئوى والحكم غير الديمقراطى، وأنُّ الأفضل هو أن تقبل بكل مصائب وابتذالات مجنونك حتى لا يأتيك من هو أجن وأكثر ابتذالا.
السؤال: هل سيقع شباب ثورات وحراكات الربيع العربى، وهم المعنيُّون بإرجاع ربيع أمّتهم إلى المسار التاريخى الديمقراطى الصحيح، فى فخّ هذا الحرف المخطّط له بإتقان وغوايات شياطين الداخل والخارج، أم أنهم، بالرغم من ضرورة مساهمتهم مع الآخرين فى إطفاء الحرائق الهائلة التى تشتعل فى كل مكان، سيبقون جذوة المطالب الديمقراطية ويصّرون على أن تحقيق تلك المطالب هو قمة العلاج لكل المصائب التى تواجهها الأمة؟ لقد صنع شباب الأمة العربية التاريخ منذ أربع سنوات، وعليهم أن يجيبوا عن هذا السؤال التاريخى بجواب تاريخى أيضا.