لا أحد يعرف بالضبط متى سيكون الموعد الرسمى الذى ستبدأ به الجهات الرسمية الاحتفال بالذكرى المئوية لثورة 1919، أنه حدث سعيد بالنسبة لنا، فلو قمت بتحليل الدم الخاص بالمصريين طوال قرن، فسوف تكتشف أن هذه الثورة من بين المكونات الرئيسة للهيموجلوبين الذى يسرى فينا، إنها الثورة التى عرفناها من الكتب المدرسية والمجلات الثقافية، والكتب، وبالطبع من خلال أفلام السينما، وما أكثرها، وأهميتها، لكننا سنتعرف اليوم على الفيلم الذى تحدث بالكامل عن الثورة ولا يعرفه أحد. إنه «الجزاء» تأليف وإخراج الأديب عبدالرحمن الخميسى.
يمكن أن نأخذ هذا الفيلم كنموذج لما قدمته السينما عن الثورة، هو من إنتاج عام 1965، وذلك ضمن مجموعة الأفلام التى أنتجتها شركة القاهرة للانتاج السينمائى، بين دفعة من الأفلام التى يخرجها أصحابها كتجربة أولى فى اخراج الأفلام الروائية، ومن بين هذه الأفلام «ثمن الحرية» أول اخراج لنور الدمرداش، وهو ايضا فيلم تدور أحداثه فى فترة قيام ثورة 1919، كما أن فترة منتصف الستينيات شهدت إقبالا ملحوظا على إنتاج أفلام حول الثورة نفسها، ومنها «بين القصرين» لحسن الامام «1964» وشياطين الليل» لنيازى مصطفى 1966، و«سيد درويش» لأحمد بدرخان و «إضراب الشحاتين» لحسن الامام 1967، ويبدأ فيلم
«الجزاء» بمجموعة من اللوحات والاسكتشات المرسومة مستوحاة من ثورة 1919، ونعرف أنها من رسوم قسم الرسوم بمعهد السينما، إلا أن أغلبها رسمه الفنان جمال كامل أشهر رسام فى مدرسة مؤسسة روز اليوسف، وتنزل العناوين التى سوف نكتشف ما بها من غرابة، فيما بعد، فالفيلم بطولة مطلقة لكل من رشوان توفيق، وحسين الشربينى، وأول مرة لظهور شمس البارودى، أما الأسماء التى أخذت البطولة الثانية فمنها رجاء يوسف، وأبو الفتوح عمارة، والغريب أن من بين الممثلين الذين عملوا فى الفيلم أشرف فهمى الذى قام بدور المحقق البريطانى، كما كان مساعدا للمخرج، وأيضا الممثل العراقى كنعان وصفى الذى قام بدور محقق بريطانى، وسوف تندهش وأنت ترى الأديب الشاعر عبدالقادر حميدة من بين أصحاب الأدوار الصغيرة
وبعد نزول العناوين، هناك اشارة أن أحداث الفيلم تدور قبيل ثورة 1919، وعليه فان الاحداث هنا تدور فى قاع المجتمع، حيث لايكاد يذكر اسم الزعيم سعد زغلول، ونتعرف على تنظيم سياسى فى حى شعبى من بين أفراده الأساسيين مصطفى مدرس الكيمياء، وهو الذى يقوم بتصنيع الديناميت المستخدم فى تفجير معسكرات الاحتلال، أما حامد فهو المحامى الذى يتولى الدفاع عن المواطن أحمد عبدالله الذى بدأت الأحداث بضربه بشكل مبرح من قبل العسكر الانجليز ويجرونه أمام أعين أهل المنطقة ومنهم أخته رجوات، لنعرف أن سبب المشاجرة أن بعض العساكر كانوا يعاكسون الاخت فتصدى لهم من قبيل النخوة، أما الشخص الثالث فى التنظيم فهو الشيخ عبد البر معلم اللغة العربية، ولا يكف الفيلم عن تقديم شخصياته، فهناك المخبر بيومى الذى عليه أن يأتى لإدارته باخبار الفدائيين، وبدوره يقوم بتجنيد المواطن سلامة مقابل المال، أما فهيمة فهى الراقصة التى تعمل فى ملهى ليلى باسم زين الملاح، وهى التى تحب أحمد عبدالله، وترسل المساعدات إلى أسرته بعد الحكم على حبيبها بالسجن لمدة عامين، وهى المرأة التى تلعب دورا إيجابيا أكثر من مرة، فهى تخفى الديناميت الذى يحمله المحامى حامد سليمان فى بدلة الرقص، وترقص فى الصالة من أجل إنقاذ الموقف، كما أنها تاتى بزميلتها لتتشاجر معها أمام بوابة معسكر الانجليز حتى يمر الفدائيون، ويدخلون المعسكر ويقومون بزرع المتفجرات، وبالتالى فهى صورة للمرأة الثائرة العاملة فى المقاومة، أشرف من بعض الرجال، ومنهم الجاسوس الذى يريد إبلاغ المحتل بأنباء رجال المقاومة.
الفيلم يتتبع العمليات السرية الفدائية التى تقوم بها المجموعة، رغم أن اثنين من الرجال يتنافسان بقوة على قلب الفتاة رجوات، فإن الثورة تجمعهما، وسط محاولات أن يعرف سلامة أسرارهما والتبليغ عنهما، وبالفعل يتم القبض على حامد، والشيخ عبد البر، ويتم تعذيبهما، ثم يحاول الضابط البريطانى استمالة حامد ليعمل معهم، ويطلق سراح المعتقلين. لكن حامد لن يخون أبدا ثورته أو مجموعته مهما كانت الضغوط أو الاغراءات إلا بسبب الحب والغيرة لأن من يحبها واقعة فى غرام زميله.
فى هذا الفيلم يختفى الحاكم كى يكون أفراد الشعب هم الأبطال، فهم بكل طوائفهم يقومون بالثورة الشعبية ضد السلطة الحاكمة، وهم هنا قوات الاحتلال البريطانى، والشرطة نفسها من الانجليز، ويبدو بعض المصريين من الخونة مثل المخبر بيومى الذى يجند أشخاصا آخرين، ومن خلال كلمات القائد البريطانى فإنه يقول إن هناك فى مصر آلافا من الجنود البريطانيين الذين جاءوا فى مهمة للدفاع عن هذه البلاد، وبالتالى فإن الفيلم يخلو من الاشارة إلى ثورة 1919، باعتبار أن الأحداث تدور « قبيل» الثورة التى قادها سعد زغلول، وهو القائد الذى عرفت أن بعضا من أساتذة التاريخ الناصريين يأخذون عليه الكثير من المآخذ، وتلك نقطة تحتاج إلى تفسيرات من قبل مؤرخ محايد.
لا شك أننا أمام فيلم يثير الجدل باعتبار أنه إنتاج الدولة، وأيضا فإننا أمام فيلم مخرج، فالخميسى كتب الفيلم، وأيضا الموسيقى التصويرية، وهو صاحب أيديولوجية، ما يعنى أن الكثير من الأفلام الأخرى لم تظهر شخصية الزعيم.، وقد ساند الفيلم أبناء الشعب، ولم يقبل أن يكون هناك جاسوس مصرى يتجسس على ابناء وطنه، مثل المواطن البسيط سلامة الذى يحلم أن يحقق ثروات من خلال عمله لصالح القوات الحاكمة، وعندما يقوم مصطفى بالدفاع عن سلامة ضد أشخاص حاولوا الهجوم عليه، يبدأ هذا الأخير فى التحول بشكل حاد، أى إن الشخصيات الذين سيكونون وقود ثورة 1919، لن يقبلوا أبدا أن يكونوا خونة أو جواسيس مهما كانت الاغراءات، والتحول الذى حدث لسلامة لم يكن فقط بسبب الموقف الشهم من مصطفى، لكن أم سلامة نفسها تقف بحزم ضد ابنها، فيتحول عن موقفه ويبدأ فى مساندة الثوار، يعتدل الموقف أكثر من خلال الحوار الذى يدور بينه ومصطفى، فيعتذر أنه تجسس لأنه يريد أن يأكل عيش، ويبلغه مصطفى أن مكسبه هو ثمن الخيانة، وبعد هذا الحديث ينقلب الموقف تماما، ويعمل سلامة فى خدمة أبناء التنظيم السرى.
ينتهى فيلم الجزاء بكلمة «البداية» التى تعنى أنه هكذا بدأت ثورة 1919، بعد أن تمت مواجهة دامية بين الفدائيين وقوات الاحتلال، فحامد قام بالابلاغ عن زميله، وخصمه فى مسألة الغرام على قلب الحبيبة رجوات، ويموت مصطفى أثناء المواجهة، وينحنى سلامة كى يلتقط المسدس ليفرغ الرصاص فى قلب الخائن حامد.