منذ أن عاد الرئيس الأمريكى ترامب إلى البيت الأبيض فى يناير الماضى، بدأت مؤشرات توتر قادم قد يؤثر على العلاقات المصرية-الأمريكية التى كانت -ولا تزال- هى حجر الارتكاز للاستقرار فى منطقة الشرق الأوسط. هذا التوتر ظهر جليًا، بسبب اقتراح ترامب الشهير بضرورة قيام مصر والأردن باستضافة الفلسطينيين والفلسطينيات الذى اقترح تهجيرهم -فى الواقع استخدم تعبيرًا مهذبًا سماه «إعادة التوطين»- مذكرا كلًا من البلدين بالمساعدات التى يحصلان عليها من الولايات المتحدة!
جاء الرد فوريا من الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى، فى كلمة ألقاها بنفسه، وكان واضحًا فى رفض مصر القاطع لهذا المقترح، وأن مصر لا يمكن أن تكون جزءًا من أى خطة تظلم الفلسطينيين.
تطرح بوادر هذه الأزمة ثلاثة أسئلة: ما هى ملامح السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية الحالية وتحديدا تجاه منطقة الشرق الأوسط؟ إلى أى مدى يمكن أن تتأثر مصر بهذه السياسة؟ وكيف يمكن لمصر التعامل مع هذه السياسة الأمريكية الجديدة؟
• • •
فيما يتعلق بالسؤال الأول، فهناك ثلاثة ملامح واضحة لسياسة ترامب الخارجية بشكل عام، الملمح الأول أنها سياسة مراوغة أى أن ما تسعى لتحقيقه ليس بالضرورة هو ما يعبر عنه الرئيس الأمريكى شفاهة، فقد يستخدم الأخير بعض التكتيكات المعروفة فى عالم البيزنس لتحقيق ما يريده مثل رفع سقف التصريحات للضغط والوصول إلى أبعد مدى للمكاسب التى يمكن الحصول عليها من الطرف الآخر، أو استخدام عنصر المساومة والابتزاز بشكل غير ديبلوماسى لدفع الطرف الآخر لاتخاذ مواقف دفاعية دائما لشعور هذا الطرف بالتهديد المادى والمعنوى.
أما الملمح الثانى فهو أنها سياسة سريعة التقلب، ورغم أن هذا الملمح قد يرتبط بعنصر المراوغة إلا أن بعض هذه التغيرات قد تكون غير محسوبة ولا مقصودة لأنها فى بعض الأحيان مرتبطة بطبيعة شخصية الرئيس الأمريكى الذى يفضل التصرف بمفرده معظم الوقت ويبدو مستمتعا دائما بطريقة الصدمة التى يتبعها فى الحديث مع الإعلام ومع الحلفاء قبل الخصوم، لدرجة أن هذه الطريقة تصدم حتى وزراءه ومساعديهم!
أما الملح الثالث والأخير فهو أن سياسة ترامب الخارجية غير مؤدلجة ولا مؤسسية! فهى سياسة براجماتية تسعى لتحقيق أكبر قدر من المكاسب (التى يراها ويتوقعها ترامب دائما فى شكل مكاسب أمنية)!
قد يتم استثناء القضية الفلسطينية من هذا الملمح الأخير على أساس أنه منحاز بشدة لرئيس الوزراء نتنياهو وتياره وبضغوط من اليمين الأمريكى المتحيز بدوره للتيارات المتشددة فى إسرائيل. هذا صحيح، ورغم ذلك فى النهاية ترامب سيضغط على نتنياهو أو من قد يخلفه حتى يضمن أولًا تحقيق مصالحه التى ما زال يراها مادية بامتياز، وهى أولويته الكبرى بعيدًا عن أى التزامات عقائدية أو أيدولوجية.
• • •
أما عن السؤال الثانى فبلا شك أن العلاقات المصرية-الأمريكية معرضة للتوتر وربما بدرجة أكبر خلال الشهور المقبلة، فمصر لن تقبل مقترح ترامب لأنها مسألة أمن قومى ولن تضحى مصر بأمنها القومى ولا بالتزامها التاريخى الثابت تجاه القضية الفلسطينية مهما هددت أو توعدت واشنطن! ربما لا يعرف ترامب، لكن الخارجية الأمريكية ولجان العلاقات الخارجية والدفاع والأمن القومى بالكونجرس بالإضافة إلى الجيش الأمريكى يعرفون جيدًا أن مسألة المعونة الأمريكية ليست مساعدة لمصر بلا مقابل، فكما تفيد الولايات المتحدة مصر فإن الأخيرة تفيد الولايات المتحدة لدعم استقرار المنطقة، والتزام مصر باتفاقية السلام رغم أية ضغوط داخلية أو خارجية مهم للحفاظ على الأمن القومى الأمريكى ومصالح الولايات المتحدة فى المنطقة!
وحتى إذا ما قررت إدارة ترامب التضحية باتفاقية السلام المصرية-الإسرائيلية- وهو أمر مستبعد- فإن إسرائيل قبل غيرها ستضغط على الولايات المتحدة لتغيير موقفها من مصر، لأن الدولة العبرية لن تتحمل فتح جبهة توتر جديدة خصوصًا مع الجارة الأكبر والأهم لها! وحتى محاولة إسرائيل لخلق حلفاء جدد فى العالم العربى عن طريق الاتفاقات الإبراهيمية لن يكون بديلًا عن الدور المصرى ولن يعوض خسارة السلام مع مصر حال حدوثه، كما أن دول السلام الإبراهيمى (الإمارات والمغرب والبحرين)، لن تتخلى عن مصر، لأنها تعرف أنه بحكم التباعد الجغرافى فضلًا عن عدة عوامل أخرى فإنها لن تعوض غياب الدور المصرى عن معادلة السلام، كما أن السعودية واضحة تمامًا فى دعمها التام للموقف المصرى وفد ظهر كل ذلك جليًا فى القمة غير الرسمية التى انعقدت فى الرياض يوم الخميس الماضى!
• • •
أما عن السؤال الثالث، فإن هناك ثلاث خطوات مهمة يمكن لمصر اتباعها وجميعها تنطلق من حقيقة أن إدارة ترامب تمثل استثناء من السياسة الخارجية الأمريكية تجاه مصر، وإلى حين وصول إدارة جديدة إلى البيت الأبيض فى يناير ٢٠٢٩ تستطيع مصر امتصاص السياسة الترامبية بهذه الخطوات:
الخطوة الأولى متعلقة بالخطاب المصرى سواء الصادر عن الرئاسة المصرية أو وزارة الخارجية وهو الاستمرار فى التأكيد على أهمية العلاقات الثنائية مع الولايات المتحدة من ناحية وفى نفس الوقت تأكيد النفع المشترك لعلاقة قوية ومتينة بين البلدين، فالنفع فى الاتجاهين وليس فى اتجاه واحد!
الخطوة الثانية هى ضرورة قيام مصر بالإصرار على فصل مسار النقاش بخصوص العلاقات الثنائية عن مسار النقاش بخصوص مقترح ترامب بإعادة التوطين! فالقضية الأولى (العلاقات الثنائية) هى قضية خاصة بالبلدين، أما النقاش بخصوص أى مقترحات متعلقة بالقضية الفلسطينية فلا بد من مناقشتها فى ظل نطاق أوسع يشمل الدول العربية المحورية (مصر، السعودية، الإمارات، قطر، الكويت، الأردن، المغرب) بالإضافة إلى إسرائيل باعتبارها سلطة احتلال وفقًا لقواعد القانون الدولى، ولا يمكن استبعادها من أى نقاش عن أى حلول مستقبلية خصوصًا تلك التى تحاول أن تبعد الهم الفلسطينى عن إسرائيل، وكأنها ليست مسئولة عن أوضاعهم وتصدير المشكلة للعالم العربى فقط!
أما الخطوة الثالثة وأظنها لا تغيب عن صناع قرار السياسة الخارجية فى مصر تتمثل فى ضرورة تنويع وتعقيد قنوات الاتصال بين مصر والفاعلين فى السياسة الخارجية الأمريكية، لحث هؤلاء الفاعلين للضغط على الإدارة الأمريكية فيما يخص ملف العلاقات الثنائية، وأخص هنا كبار المسئولين فى الخارجية الأمريكية ومجلس الأمن القومى، فضلًا عن الجيش الأمريكى، فهذه المؤسسات الثلاث فى النهاية تستطيع موازنة أى ضغوط قد يرغب ترامب أو مساعدوه فى ممارستها على مصر!
• • •
لا أتفق مع بعض من ينادى بإلغاء زيارة الرئيس السيسى إلى واشنطن، فالعلاقات الاستراتيجية تجعل هذه الزيارة ضرورية، ولكن أتفق مع تأجيلها لبعض الوقت لحين الحصول على موقف عربى موحد بخصوص مقترح ترامب، وقد يكون من المهم أيضًا حرص الرئيس المصرى على عدم تناول جدول أعمال اللقاء أى نقاش حول مقترح إعادة التوطين.
ستظل القضية الفلسطينية حاضرة فى أى نقاش مصرى أمريكى لحين حصول الشعب الفلسطينى على حقوقه المشروعة فى سلام عادل وشامل يتضمن دولة مستقلة ذات سيادة، لكن دون أى مقترح لإعادة التوطين! قد تقبل مصر قبول عدد من الأسر أو الأفراد من غزة للعلاج أو للم الشمل مع أسرهم أو للتعليم فى ظل توقف المدارس عن العمل فى غزة، أو لغيرها من الأسباب الإنسانية دون أن يشمل ذلك أى ترحيل دائم أو مؤقت.
صحيح أن مقترح ترامب سبب وقد يسبب العديد من الحساسيات المستقبلية، لكن تصورى أن ترامب سيسحب المقترح فى النهاية، وسيعيد صياغته بأكثر من طريقة فى المستقبل خصوصًا فى ظل وجود اليمين الإسرائيلى فى السلطة، لكن لن تضحى الولايات المتحدة بكل الدول العربية من أجل إسرائيل، وحتى بافتراض أن ترامب قد يقدم على ذلك، فإن المؤسسات الأمريكية لن تتحمل أبدا تبعات مثل هذا التهور، فالسياسية الخارجية فى النهاية مصالح متبادلة وتظل المصلحة الأمريكية فى الحفاظ على تحالفاتها العربية فى المنطقة، وفى القلب من هذه التحالفات يأتى الحليف المصرى.