يجمع هذا الكتاب الصادر عن دار «المرايا» بين اسمين أحبهما وأقدر موهبتهما العارمة فى مجالين مختلفين؛ وهما: بليغ حمدى الموسيقار الفذ الذى كتبت كثيرًا عن أغنياته وموسيقاه، وتأثيره على جيلنا كله، ووسام سليمان كاتبة السيناريو المتفوقة، والتى قدمت أعمالًا سينمائية مهمة؛ مثل أفلام «أحلى الأوقات» و«بنات وسط البلد» و«فتاة المصنع» والتى كتبت أيضًا سيناريوهات لا تقل جمالًا، ولكن تعثرت مشروعات إنتاجها.
الكتاب بعنوان «المزيكاتى»، وتقدم من خلاله وسام سيرة بليغ حمدى، بعد أن انشغلت لفترة طويلة بدراسة تفاصيل حياته، وبعد أن أحبت أغنياته وموسيقاه، وأعتقد أيضًا أنها شغفت بشخصيته الغريبة، وبحياته الدرامية المتقلبة، وبقصص حبه العاصفة.
أقول بعد القراءة، إن وسام نجحت بالفعل فى أن تقدم معالجة درامية ممتازة لبليغ الفنان والإنسان، فمن الواضح تمامًا حجم الجهد الكبير المبذول فى البحث الذى انعكس على التفاصيل، وضبط مسار الأحداث والأزمنة، وعلى عدد الشخصيات التى تستكمل صورة بليغ، وأبرز محطات حياته.
لكن أهم ما فعلته وسام هو عثورها على مفتاح شخصية بليغ الذى يفسر حتى لحظات نزقه وجنونه، فقد كان دوما عاطفيا يتبع قلبه، امتلك موهبة عبقرية، بل كان منذ طفولته يحلم بأن يصبح «مزيكاتيا»، ولكنه كان قلقًا، لا يعرف الاستقرار، مثل بلبل هائم يبحث عن شىء مفقود، خياله يتجاوز واقعه، حتى نظرته إلى من تعلّق بهن، وخصوصًا وردة، كانت أكثر خيالًا مما كنّ عليه بالفعل، وكأنه يعيش عالما موازيا، لا يعترف فيه أبدًا بتغير الزمن والأحوال.
بليغ كما كتبته وسام هو الأقرب فى ظنى لشخصية الرجل، فالدون جوان البوهيمى كان بداخله رجل يشقى بطبيعته الرومانسية، وبثقته المفرطة والزائدة فى البشر، وباندفاعه العارم، والمفارقة الدرامية الكبرى هى أن هذه التركيبة التى أضرت بليغ الإنسان، هى نفسها التى كانت وراء إلهامه الموسيقى والغنائى المتدفق، وهذه الطبيعة الحساسة والفياضة بالمشاعر هى التى أثرت أعماله بذلك الشجن المذهل الذى يتدفق منها، فتعرف أنها أعمال من تلحين بليغ، حتى لو لم يكتب اسمه عليها.
أعجبنى جدًا هذا المدخل لقراءة بليغ، فلا هو قادر على تغيير نفسه القلقة الهائمة والخيالية، والتى تبحث عن الحب، ولا هو قادر أيضًا على الاستقرار، بينما تنطلق موهبته وسط هذه الفوضى، وكأنه شخصان: موسيقار قوى وإنسان ضعيف، والاثنان يتصارعان ويتصالحان فى جسد واحد، ويتغذيان على بعضهما البعض، حتى يموت الجسد، فتتحرر الروح، وتخلد الموسيقى والألحان.
جاء بناء المعالجة ترجمة لهذه الثنائية، حيث نبدأ من قرار بليغ ترك مصر والسفر إلى فرنسا، بعد أن عرف من محاميه أن حكم المحكمة فى قضيته الشهيرة لن يكون فى صالحه، بعد حملات صحفية عنيفة ضده، وننتقل بعد ذلك بين غربة باريس، وتفاصيل مشوار بليغ بأكمله فى وطنه مصر، فى اختياراتٍ ذكية ومحسوبة للأحداث، وصولًا إلى السفر الأخير إلى باريس، لكى يستقبل الموت، ويتحرر من الألم.
الغريب أن بليغ كان واعيًا طوال الوقت بعبقريته الموسيقية، وواعيًا كذلك بضعفه الإنسانى، ومتقبلًا للاثنين، رغم أن هذا الضعف كان يعمل أحيانًا فى اتجاه مضاد للإبداع، ومن هذا التناقض نشأت دراما بليغ، وبدت حياته قصة جديرة بأن تروى، بقدر ما كانت أغنياته وموسيقاه موضوعًا للدراسة والبحث.
تفاصيل كثيرة يحكيها الكتاب منها علاقة بليغ بشقيقته صفية، وعنايتها الدائمة به، وقد كانت مثل أمه الثانية، وكان بليغ متعلقًا أيضًا بأمه عائشة، ويردد دائمًا «أمى، ثم أمى، ثم أمى».
حكايات العشق محورية كذلك، من الحبيبة اليونانية الأولى ماريا، إلى قصة عابرة مع سامية جمال، وزواج مضطرب وفاشل مع أمنية طحيمر، وحكاية غرام لم تكلل بالزواج مع إش إش ابنة الموسيقار عبد الوهاب، وصولًا إلى قصة الحب الكبرى مع وردة، منذ أن تعلق بها، عندما سمع صوتها لأول مرة فى أسطوانة، عند صديقه عازف الكمان الأشهر أنور منسى.
وسام تتابع حكاية وردة وبليغ من البداية إلى النهاية، لا تجادل فى أنها حبه الأكبر، ولكنها ترى أن الزمن غيّر كثيرًا من طبيعة وردة بعد عودتها إلى مصر، بينما ظل بليغ يرى فيها وردة الشابة الصغيرة التى جاءت لأول من باريس.
الطموح الفنى لدى وردة هو الأساس، أى إنها أحبت بليغ الموسيقار العبقرى، بينما انزعجت من أصدقائه وبوهيميته، ولعل إجهاضها أكثر من مرة يرجع إلى رغبتها فى عدم إنجاب طفل من زوج لا يعرف الاستقرار. ولعل سبب الفشل يرجع أيضًا إلى طبيعة وردة الحادة، وطبيعة بليغ العاطفية المتدفقة، فهى «ابنة الجبل والصحراء» بينما هو «ابن النيل»، وفى كثير من مواقف العلاقة ترجمة لهذا التناقض فى الطبائع.
سيرة بليغ لا تدقق فى تفاصيل الواقع فحسب، ولكنها أيضا تضيف أحلاما وكوابيس تثرى الأحداث وتعمقها، وتوظفها فى سياق الحكاية بشكل جيد، كما أن فتاة باريس المصرية التى يصادقها بليغ، من أجمل إضافات الخيال، وتتسق تماما مع طبيعة بليغ الحالمة، التى تغذى أعماله، مثلما يتسق خيال النهاية كذلك مع شخصية بليغ، ويليق بها بكل جدارة.
حضور الأغنيات ونجوم الغناء الكبار؛ مثل عبد الوهاب، وأم كلثوم، وعبد الحليم، ومحمد فوزى، كان أيضا قويا ومؤثرا، بالإضافة إلى شخصيات صحفية كانت قريبة من بليغ، مثل الراحلين كامل الشناوى، ومحمود عوض.
فى كل الأحوال، فإن حكاية بليغ هى بالضرورة حكاية عصر شديد الثراء بمبدعيه، وبتحولاته السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وقد كان بليغ دومًا حاضرًا بأغنياته فى الأحداث الكبرى، فهو صاحب «عدّى النهار»، أجمل أغنية وطنية بعد كارثة 67، وهو أيضًا صاحب أجمل أغنيات انتصار أكتوبر.
«المزيكاتى» بورتريه بديع هو الأقرب لبليغ الفنان والإنسان، وأتمنى أن يتحول إلى مسلسل، لأن بليغ يستحق أن نراه صوتًا وصورة ودراما، مثلما عشقناه غناء وألحانًا.