مرة جديدة وليست أخيرة، أتطرق إلى موضوع الخلافات بين أمريكا وإسرائيل، خاصة مع تطلع الكثير إلى أنباء سارة، وإن كنت أعتبرها وهمية، حول ما يعتبرونه بداية النهاية للعلاقات الخاصة والمعقدة والعميقة التى تجمع الولايات المتحدة بإسرائيل. ودفعت الأفعال والمواقف الأمريكية خلال الأسابيع والأيام الأخيرة بالعديد من المعلقين والدبلوماسيين العرب للقفز لما أراه استنتاجا متسرعا يجزم بوجود شروخ فعلية فى هيكل العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، وكيف يمكن للجانب العربى استغلال ذلك دبلوماسيا.
أطرح للنقاش هنا ثلاث نقاط، أولها معيار وإطار الحكم على طبيعة هذه الشروخ، وثانيا التغيرات الفعلية الجارية داخل المجتمع الأمريكى، وآخرها ما أراه عبئا عربيا، نقيضا لما يراه البعض فرصة للدبلوماسية العربية.
• • •
أولا، أرى ضرورة الفصل فى تحليل علاقات أمريكا بإسرائيل بين الملف الفلسطينى، وبقية الملفات الإقليمية، إذ ينظر صانع القرار الأمريكى فى هذه المرحلة إلى مسارين شبه منفصلين. تواصل واشنطن تأييدها غير المشروط لما تقوم به إسرائيل منذ السابع من أكتوبر، دون أن تتخذ أى خطوات عملية لكبح جماح سياساتها أو ثنيها عن مخططاتها، سواء فى عهد جو بايدن أو سلفه دونالد ترامب. وتُميز الإدارة الأمريكية بين ما تصفه بالحق الإسرائيلى فى اتخاذ إجراءات أمنية، وبين الانتقادات الدولية، مما يضفى شرعية على ما يحدث فى غزة والضفة الغربية والقدس. فى الوقت ذاته، تكترث الحكومة الإسرائيلية بالأساس بسعيها للسيطرة على كل أراضى فلسطين التاريخية، وتكترث بجدية إدارة ترامب فى دعمها لإسرائيل، كما ظهر عمليا بتعيينات ترامب لرئيس فريق الشرق الأوسط فى مجلس الأمن القومى، إريك تريجر، أو وزير الخارجية ماركو روبيو، أو سفيرها القس الإنجيلى مايك هاكابى.
اتخذ ترامب مواقف لا تُرضى إسرائيل إقليميا فيما يتعلق بالمفاوضات مع إيران، أو وقف الهجمات على جماعة الحوثى اليمنية، أو دعوته لرفع العقوبات المفروضة على سوريا، أو تجاهله لموضوع التطبيع السعودى الإسرائيلى خلال زيارته الخليجية. إلا أن ترامب لم يتخذ أى قرار لا ترضى عنه إسرائيل فيما يتعلق بخطط سيطرتها على غزة والضفة الغربية.
وفى الوقت الذى اكتفى فيه الرؤساء، كلينتون وبوش وأوباما وبايدن، فقط بالتنديد ببناء المستوطنات، فى حين صمت ترامب، الذى جاء ليخرج ما حاول الرؤساء السابقون مداراته، وتجاهل الفلسطينيين فى وقت خشى الحكام العرب من تهوره، وهو ما سمح له بنقل السفارة الأمريكية للقدس التى اعترف بها عاصمة موحدة أبدية لإسرائيل دون أى محاسبة أو موقف من الجانب العربى، وقضى على الوجود الفلسطينى الدبلوماسى داخل واشنطن، وأوقف عمل قنصلية بلاده فى القدس المنوط بها التعامل مع الفلسطينيين، وأوقف تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، واستغنائه عن مصطلح «الاحتلال» لوصف الوضع فى الضفة الغربية فى الوثائق الرسمية الأمريكية.
بعد عودته للبيت الأبيض فى يناير الماضى، رفع ترامب العقوبات عن بعض المستوطنين اليهود المتطرفين، ورفع الحظر عن شحن قنابل ضخمة شديدة التفجير أوقفها بايدن، ويتراقص ترامب بفكرة تهجير أهل قطاع غزة، ولم يتطرق لارتفاع أرقام ضحايا العدوان الإسرائيلى وسقوط أكثر من 55 ألف شهيد وأكثر من 150 ألف جريح، فقط تحدث ترامب مؤخرا عن المجاعة المحدقة بقطاع غزة، وقال إن الناس هناك يعانون دون أن يُتخذ أى خطوات عملية لإرغام إسرائيل على إدخال المساعدات. وفى ذات الوقت تُهندس واشنطن لسيطرة إسرائيل على المساعدات المرسلة إلى غزة من خلال تأسيسها «لمؤسسة غزة الإنسانية»، والتى تراها بديلا مقبولا إسرائيليا لاستبدال الأمم المتحدة ومنظماتها، وبقية المنظمات الإغاثية العاملة داخل القطاع.
فى تقديرى، تتبنى إدارة ترامب مواقف إقليمية تخدم، فى جوهرها، الأهداف الإستراتيجية لإسرائيل، لا سيما تلك المتعلقة بتكريس سيطرتها على الأراضى الفلسطينية. ويتم ذلك من خلال افتعال ضجيج سياسى وإعلامى – أشبه ما يكون بسياسة «الدخان والمرايا» (Smoke & Mirror) – بهدف تشتيت الانتباه عن التحولات الخطيرة التى تتسارع على الأرض فى الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس.
ما نشهده الآن هو ترجمة فعلية أنجحها الجانب العربى، لرؤية هنرى كيسنجر المتعلقة بعملية سلام وتطبيع عربية إسرائيلية مع إبقاء الفلسطينيين خارج حسابات كل دول المنطقة.
فى الوقت ذاته، لا يجب المبالغة فى شخصنة الخلافات بين ترامب وبنيامين نتنياهو، واعتبارها إشارة إلى أى شىء يغير من طبيعة هياكل علاقة الدولتين المعقدة والراسخة.
• • •
لا يعنى ما سبق أنه لا توجد تغييرات فعلية أمريكية داخلية، بل على النقيض، فما ذكرته يدعم ويسرع من حجم وقوة تلك التغييرات. وما تقوم به حكومة إسرائيل يضمن أن جزءا كبيرا من جيل كامل من الأمريكيين، ومنهم النخبة الأمريكية القادمة بعد عقدين أو ثلاثة عقود، سينظرون إلى إسرائيل على أنها دولة إبادة جماعية وفصل عنصرى تهدد الديمقراطية الأمريكية ذاتها، خاصة فيما يتعلق بمبدأين مقدسين فى أمريكا، أولهما حرية التعبير، وثانيها سيادة القانون. نظرة على ما يجرى بجامعة هارفارد أو كولومبيا يكشف عمق هذا التهديد.
قدم العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة مفهوم «الحرب القبيحة» لجيل «زد» (Z) من الشباب الأمريكى، والشباب العربى فى ذات الوقت. فما يحرك ويشكل الجيل الأمريكى القادم هو ما يحرك الجيل العربى القادم كذلك.
ومثل موقف هذا الجيل الأمريكى من العدوان الإسرائيلى، وحجم الدعم والتعاطف مع الجانب الفلسطينى فى الصراع، صدمة لجيل الآباء والأمهات، الذين فوجئوا بعقلية مختلفة من حيث رؤيتهم لأنفسهم وللعالم، ولمعانى الحق، والعدل، والمساواة.
لم تعد شعارات مثل «حق إسرائيل فى الوجود»، و«ضرب الإرهابيين»، و«معاداة السامية» تسيطر وحدها على المشهد الأمريكى، وباتت تزاحمها الآن شعارات مثل «الأبارتايد»، و«الإبادة الجماعية»، و«التطهير العِرقى»، خاصة بين أوساط الشباب الأمريكيين.
يخشى أنصار إسرائيل مما شهدته وتشهده الجامعات، خاصة مع استمرار انخفاض أعداد اليهود الأمريكيين، مقارنة بزيادة أعداد الأمريكيين العرب والمسلمين، الذين يشارك الجيل الجديد منهم - بصورة واضحة - فى الحراك الطلابى، ويدفعون إلى تسرب خطاب نقدى جديد وقوى، يفند مقولات حتمية التحالف الأمريكى والدعم الكامل غير المشروط لإسرائيل.
• • •
النقطة الأخيرة التى أتعرض لها تنبع مما ذكره بعض المعلقين من وجود فرصة للدبلوماسية العربية، وضرورة استغلالها لحالة الشرخ فى علاقات واشنطن وتل أبيب. لا أرى فرصة يمكن للعرب استغلالها فى وقت تنسلخ فيه الأراضى والقضية الفلسطينية من دائرة الاهتمام الفعلية للدول العربية بعيدا عن خطاباتها العاطفية وقممها الرنانة. وقد يكون صمت الدول العربية، وما شاهدناه خلال زيارة ترامب الخليجية، دليلا واضحا لاقتصار تفكير نخب الدول العربية، الغنى منها والفقير، على ما تعتبره مصالحها الضيقة وعدم اكتراثها بما يحدث من فصل لقضية فلسطين عن بقية قضايا المنطقة، وهو ما يشجع إسرائيل ولا يردع أمريكا.