وسط الجدل حول حدود التدخل الأمريكى فى العدوان الإسرائيلى على إيران، قال الرئيس دونالد ترامب «نحن نسيطر على السماء الإيرانية»، وقصد ترامب سيطرة إسرائيل رغم استخدامه كلمة «نحن».
لم تكن هذه زلة لسان أو هفوة ترامبية، بل هى تعبير صريح ومباشر عن حجم التناغم والتكامل فى رؤية قيادة الدولتين للشرق الأوسط ولسياستهما ومصالحهما المتطابقة فى أغلب ملفاته.
وربما صعب على الكثيرين فى عالمنا العربى تفهم حجم وعمق خصوصية علاقة الدولتين، إلا أنهم معذورون حيث لا يوفر تاريخ العلاقات بين الدول الحديثة أى سابقة بهذه الصورة. وسهل من الوصول لهذه النقطة غير المسبوقة غياب أى موقف عربى يفرض تكلفة على طبيعة هذه العلاقات الخاصة على الجانب الأمريكى.
لفهم خصوصية هذه العلاقات أعرض هنا نقطتين لا يمكن فهم طبيعة العلاقات بين أمريكا وإسرائيل دون تذكرهما طوال الوقت:
أولا: وجود ما يقرب من 800 ألف أمريكى يعيشون داخل إسرائيل. وتشير تقديرات حديثة للوكالة اليهودية إلى وصول عدد اليهود فى جميع أنحاء العالم إلى نحو 15.7 مليون شخص، بينهم 7.2 مليون يهودى داخل إسرائيل، ويعيش حوالى 8.5 مليون يهودى خارج إسرائيل، أغلبيتهم الساحقة بما يقدر بنحو 6.3 ملايين شخص فى الولايات المتحدة (ما نسبته 74% من إجمالى يهود العالم خارج إسرائيل). فى الوقت ذاته، تشير تقديرات أمريكية لوجود ما يقرب من ثلاثة أرباع المليون أمريكى يعيشون داخل إسرائيل (أى ما نسبته 7.6% من سكان إسرائيل اليهود)، منهم نحو 60 ألف أمريكى يعيشون فى المستوطنات الإسرائيلية بالضفة الغربية، حيث يسمح «قانون العودة» لأى يهودى فى العالم بالحصول على الجنسية الإسرائيلية.
ويختار كثير من اليهود الأمريكيين العيش فى إسرائيل تماشيا مع طبيعة تعاليمهم الدينية، ولا يكتسب هؤلاء الجنسية الإسرائيلية فى حالات كثيرة، رغم أن هجرتهم إلى إسرائيل تتغير لتصبح شكلا من أشكال الإقامة الدائمة.
كما أن هناك العديد من المنظمات الصهيونية التى تدعم وتسهل انتقال اليهود الأمريكيين، خاصة الفقراء منهم، بولايتى نيويورك ونيوجيرسى، للعيش داخل إسرائيل ومستوطنات الضفة الغربية. ويعد تحقيق التوازن السكانى مع العرب الفلسطينيين أحد أهم أهداف الجهود التى تدفع بها منظمات صهيونية تشجع على الهجرة لإسرائيل بين اليهود الأمريكيين.
يختار المهاجرون الأمريكيون اليهود العيش بمناطق يعرف عنها التدين والطبيعة المحافظة اجتماعيا، وضمن عائلات كبيرة، وينجبون أطفالا كثيرة، ولديهم غالبا العديد من الأفراد الذين يخدمون فى الجيش أو كجنود احتياط.
قدرت «واشنطن بوست»، بعد عملية طوفان الأقصى، وجود نحو 23 ألفا و380 مواطنا أمريكيا يخدمون فى جيش الاحتلال، كما غادر أكثر من 10 آلاف مدنهم الأمريكية تلبية لطلب قوات الاحتياط للعودة لوحداتهم القتالية.
ولا تشجع الحكومة الأمريكية مواطنيها على الخروج والقتال فى الحروب الخارجية، ولكن هناك تاريخا طويلا لليهود الأمريكيين الذين خدموا فى الجيش الإسرائيلى منذ احتلال فلسطين عام 1948، كما لا تعد الخدمة فى جيش دولة صديقة للولايات المتحدة عملا مخالفا للقانون الأمريكى.
تساهم العلاقات المتشابكة بين يهود أمريكا وإسرائيل - فى أحد جوانبها- فى تلقين العقل السياسى الأمريكى نظرة إسرائيلية أحادية الجانب للصراع على الرغم من لعب أمريكا - رسميا- دور الراعى الأهم لعملية سلام الشرق الأوسط منذ رعايتها معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979، ووصولا إلى الوساطة بين إسرائيل وحماس.
من جانبها، تدرك إسرائيل قيمة وجود أمريكيين لديها، مما يمنحها نفوذا داخل الدوائر الأمريكية المختلفة، ويسهل وجودهم -أيضا- من جهود اللوبى الصهيونى فى الولايات المتحدة، فعلى الرغم من تبنى «حل الدولتين» منذ عهد الرئيس بيل كلينتون، منتصف تسعينيات القرن الماضى، وحتى رئاسة جو بايدن، فإن اللوبى عرقل كل المحاولات الأمريكية لتحقيق ذلك.
ورغم النفوذ الكبير المتاح لشخص الرئيس الأمريكى منذ نشأة إسرائيل، فلم يكن أى من هؤلاء الرؤساء على استعداد لممارسة ضغط جاد على إسرائيل للتوصل لاتفاق سلام عادل، ولم يتمكنوا حتى من جعل المساعدات الأمريكية والحماية الدبلوماسية مشروطة بوقف إسرائيل لبناء المستوطنات والبدء بتفكيك نظام الفصل العنصرى فى الأراضى المحتلة أو الاعتراف بدولة فلسطينية.
النقطة الثانية تتعلق بالنفوذ اليهودى، فعلى الرغم من الحديث الواسع عنه وعن نفوذه الصارخ على صناعة القرار الأمريكى تجاه الشرق الأوسط، يغيب عن العقل الفكرى العربى أن هذا النفوذ جزء لا يتجزأ عن المجتمع ومراكز القوة الأمريكية. ويتمتع هذا التيار بمحصنات عديدة دعمته وقوته، على مدار العقود الماضية، من أهمها أنهم لا يمكن أن يتم الإشارة إليهم كيهود أمريكيين، وذلك على العكس من طريقة الإشارة إلى بقية الجاليات والأقليات فى الولايات المتحدة. وعلى سبيل المثال، لا الحصر، ضمت إدارة جو بايدن وزير خارجية يهوديا، ومستشار أمن قومي، أب لأطفال يهود ومتزوج من سياسية يهودية، ومسئولة الشرق الأوسط بوزارة الخارجية يهودية، ومسئولة الشرق الأوسط بالبنتاجون يهودية. ولم يتجرأ أحد ويتحدث عن هؤلاء بصفتهم كيهود، بل هم أمريكيون فقط دون الإشارة لخلفياتهم أو جنسياتهم الأخرى. وأدار هؤلاء سياسات واشنطن تجاه الشرق الأوسط بصفتهم الأمريكية فقط، وأى تلميح أو إشارة يقع تحت طائلة «العداء للسامية» والتى أصبحت سلاحا موجها ضد أى صوت مشكك أو مستفسر. لم تحتج إسرائيل العمل للضغط على هؤلاء الممسكين بمفاتيح صنع سياسة واشنطن فى الشرق الأوسط على مدار العقود الماضية، ولنا أن نتذكر أسماء مثل هنرى كيسنجر أو مارتن إنديك أو دينس روس أو آرون ديفيد ميلر، ومواقفهم تجاه الصراع وكيف حولوا «عملية سلام الشرق الأوسط» إلى عملية لا سلام فى الشرق الأوسط والقضاء على أى فكرة لاعتراف أمريكى بدولة فلسطينية.
دفع العرب ثمن عدم فهم تعقيدات وطبيعة بناء علاقات واشنطن بإسرائيل، ومع تسليم العرب بالدور الأمريكى فى حل الصراع، والاعتماد عليه، وصلنا لما شاهدناه من دعم أعمى لإسرائيل فى عدوانها على قطاع غزة الذى وصل لدرجة الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، كما أنها لم تقف ضد سياسات إسرائيل لتجويع وتعطيش وإذلال الفلسطينيين. وفى الأزمة الحالية، يبدو أن الإيرانيين لم يكونوا أكثر حنكة من الطرف العربى، وربما يعانون من تبعات عدم فهم مفاصل السياسة الأمريكية تجاههم، والتى لا تختلف كثيرا عن سياسة واشنطن تجاه العرب.