لم تحل سياسات المنع من السفر والتنقل، على خلفية انتشار وباء كورونا فى شتى أنحاء العالم، بينى وبين القيام بمهام صحفية عديدة خارج حدود مصر، وفى مطلع أكتوبر عام 2020 كانت وجهتى برفقة زميلى المصور الإيطالى «توماسو» إلى العاصمة الأرمينية يريفان، ومنها إلى مدينة غوريس الأرمينية، المتاخمة لإقليم ناجورنى كاراباخ المتنازع عليه بين أرمينيا وأذربيجان.
كانت رحى الحرب تدور على جبهات القتال الممتدة بين الجارتين منذ عقود دون حسم، وكانت قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالصراع عصية على التنفيذ بسبب تدخل القوى الكبرى إقليميا ودوليا، ولكل فريق رؤيته للصراع وسرديته لتفاصيله، ولكل فريق حساباته فى الانحياز لأحد الطرفين المتحاربين وفقا لمصالحه.
تزامنت هذه الجولة من الصراع مع استمرار التوتر فى العلاقات بين مصر وتركيا أعطى الانحياز التركى التقليدى للموقف الأذربيجانى بعدا شعبويا استخدمه تنظيم الإخوان المسلمين، فى تحريك لجانه الإلكترونية لدعم أذربيجان «المسلمة» فى مواجهة أرمينيا «المسيحية» بل وزاد هؤلاء فهاجموا مصر متجاهلين الموقف المتزن الذى اتخذته مصر تاريخيا فى التعامل مع هذا الصراع ممتد الحلقات، وحولوا الموقف التركى المبنى على «عقدة الأرمن» التاريخية إلى موقف «إسلامى».
أقول: فى هذه الأثناء وبينما كنت أتابع يوميات الحرب بالنقل الأمين لما يدور على جانبى الحدود جاءتنى رسالة من أحد «المتابعين» على فيس بوك يدعو فيها إلى نصرة المسلمين فى أذربيجان على النصارى الأرمينيين، لم ألتفت لرسالته فى المرة الأولى، لكنه عاد وكرر الدعوة فى رسالة ثانية ثم ثالثة، وحين تحدثت فى تغطية النزاع عن الدعم الذى تتلقاه أذربيجان من إسرائيل، وأشرت إلى أن أذربيجان التى تتحدث اللغة التركية، وتنتمى إلى المذهب الشيعى لديها علاقات ربما تكون هى الأقوى بين دولة إسلامية مع إسرائيل.
لم يعجبه ما أقول، وتحول دعاؤه لنصرة أذربيجان إلى دعاء على أنا شخصيا لأننى، كما قال: أروج الشائعات!
فكان مصيره الاستبعاد من قائمة المتابعين.
تذكرت هذه الواقعة وما صاحب هذه الجولة من الصراع من غوغائية إخوانية لدعم موقف الرئيس التركى إردوغان فى انحيازه لأذربيجان لا من منطلق القانون الدولى أو القرارات الأممية، ولكن من باب الدعم القائم على منطق «الأهل والعشيرة» الذى يخفى عداءً تركيا لأرمينيا.
أقول: تذكرت هذا وأنا أتابع يوميات الحرب الإسرائيلية / الأمريكية على إيران، والدور الذى تقوم به أذربيجان إلى جانب إسرائيل رغم تصريحات مسئوليها واتصالاتهم بالمسئولين الإيرانيين لدفع شبهة التواطؤ مع إسرائيل.
والعلاقات الإسرائيلية مع أذربيجان ليست خافية على أحد وسجلات التعاون بين الجانبين توثق إلى أى مدى بلغ التنسيق فى شتى المجالات، لكننى ومن بين كثير من المعلومات والوثائق، أشير إلى ما نشره الباحث الإسرائيلى ذو الأصول الأوكرانية «فلاديمير زائيف خانين» على موقع معهد بيجين ـــــ السادات للدراسات الاستراتيجية يوم 11 يونيو الحالى، فتحت عنوان عملية «باكو» مثلث العلاقات الإسرائيلية الأذربيجانية التركية، يقول فلاديمير: إن أذربيجان تزود إسرائيل بنحو 50 بالمئة من احتياجاتها النفطية، وفى المقابل تتلقى نحو 60 أو 70 بالمائة من وارداتها من الأسلحة من إسرائيل، وقد رفضت «باكو» الضغوط التى مارستها بعض الدول عليها بعد السابع من أكتوبر 2023 من أجل خفض مستويات التبادل التجارى مع إسرائيل.
ويضيف فلاديمير: ترتبط إسرائيل وأذربيجان أيضًا بمجموعة واسعة من أشكال التعاون التجارى، والدبلوماسى، والعلمى، والتكنولوجى، والثقافى وغيرها.
تمثل هذه المجالات «قمة جبل الجليد» بشراكة استراتيجية بعيدة المدى بين الدولتين، والتى تمتد إلى ما هو أبعد من حدود العلاقات الثنائية.
وفى هذه الدراسة يتحدث الباحث الإسرائيلى عن عمق العلاقات بين باكو وتل أبيب وخططهما المشتركة فى لعب أدوار إقليمية لخدمة الجانبين، إذ يضيف موضحا: من بين عوامل أخرى، يرتكز التقارب بين الدولتين على تحديات جيوسياسية مشتركة، وفى مقدمتها تلك التى يفرضها النظام الإيرانى، إلا أن الفارق الرئيسى يكمن فى أنه بينما لطالما اعتبرت إسرائيل النظام الإيرانى الشيعى الأصولى عدوًا صريحًا ومعلنًا، تُحافظ أذربيجان رسميًا على ما وصفه الرئيس إلهام علييف بـ«علاقات العمل» مع الإدارة الجديدة فى طهران. ومع ذلك، لا شك فى أن باكو - على الرغم من قبولها رسميًا لتأكيدات القادة الإيرانيين الخطابية بـ«حسن الجوار» ـــ تُعتبر طموحات إيران «الإمبريالية» فى الجزء الشرقى من «الشرق الأوسط الكبير» (بما فى ذلك الخليج العربى وبلاد الشام وجنوب القوقاز) تهديدًا وجوديًا للأمن القومى الأذرى.
تتضمن دراسة الباحث الإسرائيلى العديد من النقاط المهمة فى بيان استراتيجية العلاقات بين إسرائيل وأذربيجان، لكننى أكتفى هنا بهذا القدر، لأعود إلى ما كنا قد بدأنا به، وهو الغوغائية التى شابت الدعم الإخوانى لموقف أذربيجان من أرمينيا، وأسأل: كيف حال هؤلاء الآن؟!
إن الكارثة الكبرى فى موقف القوى السياسية ذات المرجعيات الدينية هى تحويل أى صراع أو نزاع سياسى إلى جولة من جولات الحروب الدينية أو الطائفية، بمعنى أوضح يستخدمون الشعارات الدينية لخدمة أهدافهم السياسية، تستوى فى هذا الأمر القوى الشيعية فى إيران ومن يؤيدها من تنظيمات وقوى شيعية، أو السنية فى تركيا وحلفائها من الإخوان المسلمين.
ولا فرق هنا بين علاقات إسرائيل وأذربيجان «الشيعية» الممتدة والعميقة إلى الحد الذى يشكل تهديدا صريحا على إيران، وبين علاقات إسرائيل مع تركيا «السنية»، التى لم تتأثر رغم طوفان التصريحات التركية المنددة بالسياسات الإسرائيلية.
إن هذه الموجة من الصراع كاشفة إلى حد بعيد، والعدوان الإسرائيلى ممتد الحلقات متنوع الساحات، لا يحتاج إلى تأويل دينى أو طائفى لمواجهته، هو فقط يحتاج إلى ضمير حى، بغض النظر عن العقيدة التى يؤمن بها أو لأى طائفة ينتمى.