فى الأسبوع الماضى تلقيت دعوة كريمة لحضور مسرحية «الملك لير» على خشبة المسرح القومى، فذهبت أنا وزوجتى لحضور العرض، الذى بدأ فى موعده تمامًا، وقد سبق رفع الستار، تنويه بصوت الفنان الكبير يحيى الفخرانى ــ بطل العرض ــ يدعو المشاهدين إلى إغلاق هواتفهم المحمولة، أعتقد أن أحدًا لم يستجب لهذا الطلب مكتفين بوضع الهواتف على الوضع الصامت ــ كنت واحدًا من هؤلاء ــ.
كانت زوجتى التى تشاهد العرض للمرة الأولى تتابع أحداث المسرحية بتأثر بالغ حتى إنها بكت عدة مرات حزنا على مصير الملك لير، بينما كنت أنا ورغم إعجابى الشديد بالمسرحية التى شاهدتها عدة مرات بأبطال مختلفين، أتابع العرض بعين، وعينى الأخرى معلقة على الهاتف لمتابعة الأخبار العاجلة، حيث كان المسرح الأمريكى يتهيأ لانطلاق أعمال القمة الأمريكية ــ الروسية فى ألاسكا، لكن براعة الممثلين على خشبة المسرح، وفى مقدمتهم بالطبع يحيى الفخرانى «الملك لير» وطارق دسوقى «جلوستر» دفعانى للاندماج فى مشاهدة المسرحية، تاركًا المسرح الأمريكى وما يدور على خشبته بعض الوقت.
فى الاستراحة وبينما كنت أتحدث مع زوجتى عن روعة البناء والديكور فى المسرح القومى، تذكرت يوم السابع والعشرين من سبتمبر عام ألفين وثمانية حين اشتعلت النيران داخل المسرح فكادت أن تقضى عليه تماما، وكيف تجمع المثقفون والفنانون المصريون فى ميدان العتبة وهم يتابعون بحسرة جهود إنقاذ المبنى العريق من الدمار، كنت بينهم أنقل ما يدور على الهواء مباشرة، وعقلى وقلبى يعتصران ألمًا على قطعة غالية من تاريخ مصر الفنى والثقافى.
الآن ها هو المسرح القومى يقف شامخا مرة أخرى فى قلب الميدان لكن الميدان ــ بكل أسف ــ يزدحم بالباعة الجائلين فيحول دون الوصول لمدخل المسرح، فى مشهد نموذجى للعشوائية التى باتت تضرب الكثير من شوارعنا ومياديننا خاصة فى قلب القاهرة.
تنتهى الاستراحة القصيرة فنعود مرة أخرى للعرض المسرحى بالغ الأهمية، شديد الخصوصية، فى هذه المرة كانت الأحداث تتصاعد على خشبة المسرح ومأساة «الملك لير» تكتمل عناصرها بتآمر بنتيه، ومأساة «جلوستر» تبلغ ذروتها بفقء عينيه، وتفاعل زوجتى يصل إلى أبعد مدى بدموع تنهمر دون توقف.
يبدع المخرج شادى سرور فى تقديم مشاهد بالغة التعقيد بإخراج غاية فى البساطة والعمق، ويبدع الممثلون جميعا فى أداء أدوارهم.
هذه المرة تأخذنى المشاهد على خشبة المسرح إلى سجن الواحات فى مطلع الستينيات؛ حيث خشبة المسرح التى أقامها عدد من المثقفين والفنانين المصريين الشيوعيين الذين كانوا يقضون فترة سجنهم أو عتقالهم فى هذا السجن ــ امتدت من عام 1959 إلى عام 1964 ــ نعم كان هناك مسرح فى السجن وعروض مسرحية يشارك فى كتابتها وإخراجها وتمثيلها مبدعون مصريون اختلفوا مع نظام الرئيس جمال عبد الناصر، لكنهم كانوا يعرفون الفرق جيدًا بين معارضة النظام والاختلاف معه فى قليل أو كثير من توجهاته، وبين أن يناصبوه العداء ويصطفوا مع أعداء بلادهم فى مواجهته، ولذلك فبمجرد أن تم الإفراج عنهم عادوا جميعا لممارسة أعمالهم وإبداعاتهم بل وحصل كثير منهم على جوائز الدولة بمختلف مستوياتها، فى سجن الواحات وعلى خشبة المسرح التى صممها المهندس الموهوب فوزى حبشى بمساعدة الفنان محمد حمام ــ كان وقت اعتقاله طالبا فى كلية الفنون الجميلة قسم العمارة ــ قدم السجناء عروضا مسرحية عالمية لجان بول سارتر ووليام شكسبير، وعروضا مسرحية مصرية لنعمان عاشور.
وفى هذه الفترة وداخل السجن كتب ألفريد فرج رائعته «حلاق بغداد» التى عرضت على خشبة المسرح القومى بعد خروجه من السجن بنحو عام عن هذه التجربة الثرية يتحدث الكاتب على الشوباشى فى كتابه «مدرسة الثوار ــ الحياة الثقافية فى سجن الواحات» بالتفصيل كما حفظت ذاكرته وفقا لما قاله فى مقدمة الكتاب
ومن بين ما رواه الشوباشى فى كتابه: أن الفنان الراحل على الشريف وكان من بين المسجونين فى هذه الفترة فى سجن الواحات قدم أول أعماله التمثيلية على خشبة هذا المسرح، والمثير فى الأمر كما يروى الشوباشى أن على الشريف ــ كان مدرسا للغة العربية قبل دخوله السجن ــ كان يقدم أدوارا نسائية وكان رغم ملامحه التى نعرفها جميعا متميزا فى أداء هذه الأدوار النسائية.
كنت أفكر فيما كتبه على الشوباشى عن مسرح سجن الواحات بينما كانت خشبة المسرح تعج بأبطال العرض فى مشهد معركة هزيمة جيش الملك لير وابنته الصغرى، فأعادنى «صليل السيوف» إلى عرض «الملك لير» فتابعته حتى مشهد النهاية وتحية الممثلين وإسدال الستار وخرجت وزوجتى سعيدين بالعرض وبما جال بخاطرى أثناء مشاهدته.