القاهرة فى السادس والعشرين من فبراير عام 1980، الرئيس السادات يستعد لاستقبال إلياهو بن أليسار، أول سفير إسرائيلى بالقاهرة، وأحزاب المعارضة، بدعوة من زعيم حزب العمل إبراهيم شكرى، تعلن رفع مليون علم فى شوارع مصر ردّا على رفع علم إسرائيل فوق بناية فى شارع محيى الدين أبو العز فى حى المهندسين، حيث أول مقر للسفارة الإسرائيلية بالقاهرة.
والكاتب الصحفى الكبير أحمد بهجت يعلن فى عموده بصحيفة الأهرام «صندوق الدنيا»: «إذا كان هذا العلم رمزًا لاغتصاب حقوق الشعب الفلسطينى فإننى أعتذر عن الترحيب به. لست ضد السلام كإنسان، ولست ضد اليهود كبشر. إننى أؤمن بالسلام، وأؤمن بأنه اسم من أسماء الله تعالى، وأؤمن بأخوة النوع الإنسانى ككل، فكلنا لآدم، وآدم من تراب. ليست هذه هى القضية!».
ويواصل: «علم فلسطين نرفعه فى قلوبنا انتظارًا لرفعه على أرضه، إلى أن يحصل الشعب الفلسطينى على حقه. سيظل موقفى من العلم الإسرائيلى هو التحفظ بمشاعرى الخاصة. وللعلم، ترفع مصر علم فلسطين على الجامعة العربية، ولسوف نظل نحلم برفعه على الأرض المحتلة».
تذكرت هذا اليوم بكامل تفاصيله كما عرضته فى فيلمى الوثائقى «هى أشياء لا تُشترى» عام ألفين وتسعة، وأنا أتابع جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال الأيام الماضية، وكيف منعت الولايات المتحدة منح الرئيس الفلسطينى محمود عباس تأشيرة دخول أراضيها للمشاركة فى مؤتمر حل الدولتين واجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، بزعم أنه «لم يدِن هجمات 7 أكتوبر».
لم تكن هذه المرة الأولى التى تمنع فيها أمريكا زعيمًا فلسطينيًا من دخول أراضيها للمشاركة فى اجتماعات الأمم المتحدة، فقد فعلت ذلك عام 1988 حين رفضت منح الزعيم الفلسطينى ياسر عرفات تأشيرة دخول لحضور الاجتماعات، وبررت القرار وقتها بأن ياسر عرفات «على صلة بالإرهاب»، وساعتها نقلت الأمم المتحدة اجتماعاتها إلى مقرها فى جنيف.
فى واقعة منع عرفات، حاول البيت الأبيض التنصل من مسئولية إصدار القرار وقال إن الخارجية اتخذت قرار منع عرفات دون العرض على الرئيس الأمريكى آنذاك رونالد ريجان، لكن فى هذه المرة لم يتهرب البيت الأبيض من المسئولية، بل جاهر بها.
ومنع الرئيس الفلسطينى محمود عباس من حضور الاجتماع، فكانت كلمته عن بُعد دليلا جديدًا على مخالفة الولايات المتحدة للقانون الدولى واحتقارها للمنظمة الأممية، وهذا ما ظهر جليًا فى كلمة دونالد ترامب أمام الجمعية العامة.
وهنا لا بد من التذكير بما تنص عليه اتفاقية المقر التى تستضيف بمقتضاها الولايات المتحدة الأمريكية مقر الأمم المتحدة، حيث تلزم الاتفاقية الولايات المتحدة بعدم عرقلة مرور موظفى الأمم المتحدة وممثلى الدول الأعضاء والخبراء والمدعوين وممثلى وسائل الإعلام المعتمدين إلى منطقة المقر. وهذا الأمر يشمل إجراءات إصدار التأشيرات، إذ تنص الاتفاقية المبرمة بين الجانبين عام 1947 على أن مقر الأمم المتحدة يتمتع باستقلالية واسعة، وتلزم أمريكا بإصدار التأشيرات مجانًا وبأسرع وقت ممكن مع مراعاة أن هذه القواعد تنطبق على الجميع بغض النظر عن العلاقات القائمة بين الولايات المتحدة الأمريكية وحكومات هذه الوفود وهؤلاء الأشخاص، لكن أمريكا لا تُعرِ هذه القواعد والاتفاقيات أى اهتمام، خاصة فى عهد الرئيس الحالى ترامب.
وعلى الجانب الآخر منحت أمريكا «مجرم الحرب» بنيامين نتنياهو كامل الدعم والتقدير فى الوقت الذى كانت تتوالى فيه قرارات الإدانة الدولية لما يرتكبه من جرائم على كامل الأراضى الفلسطينية، وبالتزامن مع توالى اعترافات الدول من الشرق والغرب بالدولة الفلسطينية.
وفى الوقت المحدد لإلقاء كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، كان التصويت العملى على رفض وإدانة ما ترتكبه إسرائيل، فبمجرد وقوفه لإلقاء كلمته، بدأت وفود الدول فى مغادرة القاعة وسط تصفيق احتجاجى عاصف.
كان هذا المشهد صفعة مزدوجة على وجه نتنياهو ودولة الاحتلال، وعلى وجه دونالد ترامب وواشنطن أيضًا.
فى كلمته التى ألقاها أمام المقاعد الخاوية أعاد نتنياهو إنتاج الأكاذيب، وأدار ماكينة الدعاية الصهيونية التاريخية فى محاولة مكشوفة لقلب الحقائق، لكن كل هذه المحاولات لم ولن تجدى نفعًا؛ فجرائم إسرائيل تُنقل على الهواء مباشرة، وتسخير التكنولوجيا وخوارزميات السوشيال ميديا وتواطؤ شركاتها الأمريكية الكبرى مع دولة الاحتلال باتت مفضوحة.
لذا سيبقى حق الشعب الفلسطينى، برغم كل الانكسارات، قائمًا وقابلًا للتنفيذ رغم أنف نتنياهو وترامب ومن سار فى طريقهما أو خضع لإرادتهما.