أثار اهتمامى ما جاء بمقال رأى ورد ضمن مجموعة مقالات عن الصين بعثت بها من هناك صديقة عزيزة. جاءت فى المقال نصيحة إلى الرئيس شى بالعودة سريعا إلى أسلوب التدرج الذى أشار إلى انتهاجه الرئيس الأسبق للصين دينج شاو بينج. هناك بطبيعة الحال من يريد أن يحمل الصين مسئولية الغليان عند مستوى العلاقات بين الدول الكبرى. يقولون إن العالم لم يبدأ فى التحول الجذرى من حال إلى حال أخرى إلا عندما ظهر واضحا للطبقة السياسية فى الولايات المتحدة أن الصين عجلت بخطوات صعودها نحو القمة. هناك أيضا من يسعى للبحث عن مخرج من الورطة الراهنة فى السياسة الدولية حيث الولايات المتحدة تجرب إعادة عقارب الساعة إلى الوراء بينما الصين والاتحاد الروسى يتجاوزان الحدود فى سعيهما لإقامة نظام عالمى جديد لا يكون لأمريكا فيه حق الهيمنة.
***
أحترم صاحب هذا الرأى. أحترم حسن نيته وأتفق معه فى أن العالم يتوجه بسرعة رهيبة نحو صدام حتمى ما لم تهدأ مختلف الأطراف وتهدئ من سرعتها، سواء الصين فى سرعة صعودها نحو القمة أو أمريكا فى سرعة انفعالها. وفى ظنى الشخصى أنها لن تهدأ على النحو الذى نريد. لن تهدأ لأن ما يحدث فى أمريكا لا يمكن وقفه إلا بتحولات أساسية وخطيرة فى المجتمع الأمريكى ولعل بعض ما يفعله الرئيس ترامب يدخل ضمن هذه التحولات. لقد أصابت العولمة الجسم الأمريكى إصابات بالغة فى منظومة هوياته إلى حد يهدد استقراره بل وفهمه لشحصيته ودوره. أصيبت هياكله المؤسسية وبنيته التحتية وإصلاح كليهما يحتاج عقودا أغلبها يقع فى ظروف شديدة التقلب والتغيير المستمر. هكذا يبدو الحال لبعض المفكرين الغربيين ومن ثم يبقى الحل الوحيد العاجل هو وقف صعود الصين بالسرعة الممكنة.
بالنسبة للطرف الثانى فى هذه المعادلة يبدو الحال أكثر وضوحا وأقرب إلى الحسم. ببساطة شديدة يمكن تبنى الرأى القائل بأن الرئيس شى لن يستجيب بسرعة للنصيحة فيبطئ المسيرة ليس فقط لأنه عاجز عن إبطاء آلة الإنتاج الهائلة ولكن أيضا لأنه صار متأكدا من أنه لو أبطأ فسوف تنقض على الصين كل القوى الغربية المعادية تاريخيا للصين تهد ما بنى خلال أكثر من نصف قرن. ثم أنه يعرف أن الإنجازات فاقت كل ما كان متصورا أو مخطط له وبالتأكيد لا يريد أن يسجل له فى تاريخ الصين أنه الإمبراطور الذى أحبط أحلامها. فالصين أصبحت بالفعل فى نظر شعبها وجيرانها دولة قوية. الصين لأول مرة خلال ألفى عام اقتربت من تحرير جميع أراضيها وشعوبها، حتى التبت تحررت واستقرت الأوضاع فى سنكيانج بوابة الصين على المسلمين وبوابتهم التى أغاروا منها على إمبراطوريات الصين وبخاصة تلك التى أبدت فى لحظة أو أخرى علامات ضعف أو كشفت عن مظاهر انفراط وقلاقل. لم يتبق إلا القليل مثل تايوان ووضع سياسى شاذ فى هونج كونج.
***
سئلت هل لو كانت الولايات المتحدة أقدمت مبكرا على فرض زيادات فى التعريفة الجمركية على وارداتها من الصين هل كانت تفلح فى وقف أو إبطاء صعود هذا العملاق الأسيوى. أظن أنها ما كانت لتقدم على خطوة من هذا النوع فى وقت كانت تقود فيه العالم باسم حرية التجارة. أظن أيضا أن صعود الصين إلى حد القدرة على تحمل مسئوليات دولية كان هدفا أمريكيا. أظن كذلك أن اتساع رقعة التجارة بين الصين والولايات المتحدة كاد يمثل مصلحة حيوية لأمريكا لأنه ساهم فى إدماج فقراء أمريكا وقطاعات واسعة متضررة من الطبقة الوسطى فى سوق المنتجات الاستهلاكية رخيصة الثمن بعد أن توقفت عن إنتاجها الشركات الأمريكية وبخاصة بعد أن هاجر كثير منها للاستثمار خارج أمريكا. رابعا فقد اكتشفنا فى الأسابيع الأخيرة أن الرئيس شى كان قد وجه الاقتصاد الصينى حتى قبل بدء ولايته الجديدة إلى تخفيض الاعتماد على السوق الأمريكية، وبشكل عام على قطاع الصادرات. وبالفعل فقد انخفض نصيب التجارة الخارجية فى الناتج القومى من نسبة 37 بالمائة إلى نسبة 20 بالمائة وزادت نسبة العمالة المشتغلة فى الاقتصاد الخدمى إلى 45 بالمائة.
***
جمع الرئيس شى فى شخصيته عناصر لم تتوفر جميعها فى أى من الرؤساء السابقين. كان فى معظم حياته قريبا من بؤر أحداث كبرى من خلال مواقعه فى الحزب فتأثر بها دون أن يتلون بألوانها. تأثر مقتنعا بمبدأ مركزية الحكم فى الصين وهو المبدأ الذى جعله لا يقدم على الترشيح للولاية الثانية إلا وقد ضرب جميع القوى من ذوات النوازع الإقليمية أو المعتمدة على نفوذ محلى. تاريخ الصين فى هذا الشأن معلم أعظم. إذ ما إن قويت زعامات إقليمية إلا ودب الفساد فى أرجاء الإمبراطورية الشاسعة ومن الفساد حتما إلى الانفراط. تأثر أيضا بأحداث الثورة الثقافية وأهدافها. ها هو الآن وعلى مرأى من المخضرمين فى الصين ومراقبيها فى الخارج يلجأ إلى أسلوب دعوة المثقفين والمفكرين إلى الدخول فى مناقشات حرة تماما حول قضايا المجتمع ومشكلاته الأساسية. هدفه كما كان هدف الرئيس ماو خلال حملة دع الزهور تتفتح فى الخمسينيات والثورة الثقافية فى الستينيات مثلث الأبعاد. بعده الأول تنفيث البخار المتراكم نتيجة الكبت والقمع، بعده الثانى الاستفادة من أفكار ومبادرات الخبراء والمتخصصين بعيدا عن قيود البيروقراطية وخوف الصحفيين من عواقب النشر غير المنضبط، الثالث هو حشد وتشكيل قاعدة شعبية وبالأخص حزبية تتفرد لطاعة الرئيس وابتكار مبادرات إعلامية وتطوير العمل السياسى بما يتناسب مع ظروف جديدة تماما. تأثر الرئيس شى أيضا بمظاهر القيادة الدولية. خرج عن حياء الصينيين التقليدى وترددهم وراح يترجم القوة المادية ومشروعات النقل والمواصلات قوة ونفوذا وامتيازات سياسية دون أن يلجأ للقوة المسلحة فى علاقات الصين الخارجية مرة واحدة. قدم نموذجا للتوسع الاستراتيجى لم تقدمه دولة غربية من قبل.
تأثر الرئيس شى بتدرجية الرئيس دينج شاو بينج مقتنعا بأن تسخين أو تسريع احتمالات الصدام مع أمريكا أساسا والغرب أيضا كفيل بأن يعطل إن لم يوقف تقدم الصين وصعودها نحو القمة. عرف أيضا من تجربة عهده الأول أن التدرجية نفسها قد تصبح عقبة خصوصا بعد أن اكتشفت أمريكا والعالم كله أن الصين تجاوزت بتدرجها حدود الانتقال المسموح به وانطلقت نحو القمة ربما بأسرع مما كان عليه الأمل وبقوة لم تكن فى الحسبان.
***
لا أظن أن حكومة فى عالمنا المعاصر لم تتأثر بأساليب وغوايات النظام الشعبوى فى الحكم. كان ترامب نموذجا وإن سبقه إلى الإبداع فى استخدامه الرئيس فلاديمير بوتين. كلاهما ساعدا فى نشره حين اجتمع ثلاثتهم على دعم كل الحكومات الشعبوية فور نشأتها وتشجيعها وتفضيلها على غيرها من الحكومات التى ما تزال متمسكة بالأشكال التقليدية فى الحكم كالشكل الديموقراطى الليبرالى والشكل التكنوقراطى. لا نستطيع إطلاق الصفة الشعبوية على حكومة الرئيس شى ربما لأنه الرئيس الذى احتفظ ببنيان الحزب الحاكم قويا وشامخا، دون أن يحرمه الحزب من ممارسة بعض الأساليب الشعبوية أسوة بأقرانه فى الخارج.
صعب أن نتصور أن يبقى الحال فى القمة الدولية على هذا النحو، فالصين ما زالت فى صعودها الصاروخى وترامب يؤسس لنظام سياسى جديد فى الولايات المتحدة وبوتين يستعيد لروسيا مكانتها معتمدا على حاجة كل من الصين وأمريكا إليه طرفا موازنا.