كدأبها فى شتى مناحى النهضة ودروب التحضر، استبقت مصر محيطها، بإنشاء أول مدرسة للطب فى عام 1827. حينما أمر، محمد على باشا، ببنائها فى منطقة أبى زعبل، قبل أن تنتقل لاحقا إلى حاضرة قصر العينى. ومنذ ذلك الحين، أضحى الالتحاق بـ«مدرسة الطب»، التى غدت فيما بعد «كلية الطب»، حلما يداعب مخيلات الدارسين فى مرحلة التعليم قبل الجامعى، حتى أمست «كلية القمة»، التى تتوق إليها ألباب دارسى شعبة العلوم فى الثانوية العامة. وبات يٌنظر إلى الملتحقين بها بوصفهم نخبة طالبى العلم وأنجبهم. كما يغبطهم الجميع على ما ينتظرهم من مستقبل زاهر، ومكانة مرموقة، وفرص أفضل للعيش الكريم. وفى الماضى، عكف عموم المصريين على نعت الطبيب بـ«الحكيم». وبـ«الحكيمة»،كانت تسمى الممرضة، التى تشكل أحد أبرز فيالق الجيش الأبيض.
غير أن مآلات الأمور أخذت فى التبدل، خلال العقود الثلاثة المنصرمة. حيث فوجئنا بمن يغادر كلية الطب ويتجه لممارسة مهن أخرى توسلا للكسب السريع. أو من ينهى دراسته للطب ثم ينخرط فى الأنشطة التجارية. حتى دهمتنا ظاهرة «هجرة الأطباء»، التى استقطبت قطاعا عريضا من شبابهم. فوفقا لسجلات النقابة العامة للأطباء، يبلغ إجمالى تعدادهم بالقطاعين العام والخاص 212853 طبيبا، منهم أكثر من 120 ألفا يعملون بالخارج. أى أن ٦٧٪ من خريجى كليات الطب يغادرون البلاد، بواقع سبعة آلاف طبيب سنويا. وبينما لم تكن نسبة المهاجرين فى الماضى تتخطى واحدا فى الألف، قفزت اليوم إلى خمسة فى الألف، غالبيتهم من حديثى التخرج.
بعدما كان شباب الأطباء يتنافسون، فيما مضى، على نيل نيابات التخصص، أو التسجيل للدراسات العليا، صاروا اليوم يعطونها أظهرهم؛ قاصدين الهجرة إلى دول غربية مثل ألمانيا، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلاندا، وإنجلترا، وأمريكا، وسنغافورة. وهى التى لا تشترط إتمام الطبيب المهاجر دراساته العليا، بخلاف الحال لدى الدول العربية. وحتى وقت قريب، كانت ألمانيا تمثل الوجهة المفضلة لشباب الأطباء، بغية استكمال الدراسة أو اقتناص فرصة للعمل. أما اليوم، فقد أصبحت بريطانيا قبلتهم الأولى، بعدما غدا المصريون يتصدرون قائمة أطبائها الأجانب، بواقع قرابة ثمانية آلاف طبيب. كما فاقت أعداد الأطباء المصريين العاملين بالسعودية، والتى ناهزت ٦٥ ألف طبيب، أعداد نظرائهم العاملين بمستشفيات وزارة الصحة المصرية. وفى مسعى منه لدق ناقوس ذلك الخطر، أكد تقرير حديث لنقابة الأطباء المصرية، بلوغ إجمالى عدد الأطباء المستقيلين، الحاصلين منها على شهادة «طبيب حر»، نحو 11 ألفا و536 طبيبا، استقالوا منذ يناير2019، وحتى مارس 2022. ليتقلص عدد الأطباء العاملين فى القطاع الحكومى إلى 93 ألفا و536 طبيبا.
علاوة على إهدار خيرة رأسمالنا الاجتماعى، الذى يشكل لب قوتنا الناعمة، يفضى نزيف الجيش الأبيض، إلى تكريس العجز المفجع والمزمن فى الكوادر الطبية، من الأطباء، والصيادلة، وطواقم التمريض. بما يثقل الأعباء على كواهل زملائهم المناضلين على أرض الوطن. فقد تراجع معدل الأطباء فى مصر إلى طبيب لكل 1162 مواطنا مقارنة بطبيب لكل 200 فى بلاد الغرب، فيما تقتضى المعدلات العالمية وجود طبيب لكل ٤٣٤ فردا.
فبحسب دراسة أعدتها وزارة الصحة، يبلغ عدد الأطباء المسجلين والحاصلين على ترخيص مزاولة المهنة ٢١٢.٥٨٣ ألف. لكن أعداد العاملين بمستشفيات وزارة الصحة، وجميع الهيئات التابعة لها، والمستشفيات الجامعية الحكومية، والخاصة، والتابعة لجامعة اﻷزهر، لا يتجاوز ٨٢ ألف طبيب، بما نسبته ٣٨% فقط من القوة الأساسية للأطباء فى مصر. كذلك، تؤدى هجرة الكوادر الطبية وطواقم التمريض، إلى تدنى مستوى الخدمات الصحية المقدمة للمواطن، ومفاقمة التحديات المتنوعة التى تكبل القطاع الصحى. الأمر الذى يتمخض، فى نهاية المطاف، عن إعاقة تطبيق خطة رئيس الجمهورية بشأن تعميم التأمين الصحى الشامل. بما يؤثر سلبا على الأمن القومى المصرى، بجريرة القصور المتعاظم فى إجراءات وآليات حماية رأس مالنا الاجتماعى.
تتصدر الاعتبارات المتعلقة بانخفاض أجور الأطباء المصريين إلى ما دون الحد الأدنى العالمى، دوافعهم الملحة للهجرة. فوفقا لبيانات نقابة الأطباء، يحصل الطبيب فى بداية تعيينه على 3120 جنيها، تستمر لثمانى سنوات، حتى يترقى إلى الدرجة المالية التالية، فيتقاضى 3600 جنيه!. ولا يتخطى متوسط معاش الطبيب بعد نحو 35 سنة خدمة بالحكومة، 2300 جنيه. وفى نهاية فبراير الماضى، أعرب الرئيس عبدالفتاح السيسى عن استيائه من ظاهرة هجرة الأطباء للخارج، منتقدا تواضع رواتبهم، إلى مستوى لا يشجعهم على الاضطلاع بواجبهم الوطنى.
يكابد العاملون بالكادر الطبى صعوبات جمة، فيما يتعلق بمواصلة البحث والتطوير عقب التخرج. فبينما يواجه الاساتذة إشكالية المواءمة بين التدريس، والبحث، وعلاج المرضى، يعانى الشباب معضلة الموازنة بين العمل والتطوير. ويعود ذلك إلى ارتفاع كلفة الدراسات العليا، مقارنة بضآلة الأجور فضلا عن الافتقار إلى المستشفيات المزودة بالتجهيزات الضرورية. وتنامى العجز فى أعضاء هيئات التدريس، جراء انتداب غالبيتهم، جزئيا أو كليا، لدى الجامعات الخاصة والطب العسكرى، إضافة إلى سفر الكثيرين منهم للعمل بالخارج. ونتيجة لذلك، برأسها تطل محنة العجز المذهل فى التخصصات الحيوية، مما يعمق مأساة المراكز الطبية المتخصصة، وعيادات الطوارئ، وغرف الرعاية المركزة. ففى حين يتخرج من الجامعات عشرة آلاف طبيب سنويا، تتأخر الدولة فى تكليفهم للعمل والتدريب، استنادا إلى مشكلات بيروقراطية تتصل بالتكليف وبرامج الزمالة.
على غير المعتاد عالميا، تشكل بيئة العمل تحديا هائلا للطبيب المصرى. فإضافة إلى نقص طواقم التمريض، التى يتبارى أفرادها فى السفر إلى دول الخليج، وأوروبا، وكندا، والولايات المتحدة، سعيا وراء رواتب أعلى، وظروف عمل أفضل لا تتورع الدول الغنية، من جانبها، عن استقطاب الممرضين والممرضات من البلدان ذوات الدخل المنخفض، تاركة إياها تعانى الأمَرين، بإتاحة أقل من 900 ممرضة فقط لكل مليون شخص، ما يرفع نسبة العجز فى كادر التمريض بالمستشفيات الحكومية إلى 50%. وربما لا يدرك الكثيرون أن كادر التمريض يشكل نسبة 23ــ25% من إجمالى العاملين فى المجال الطبى، كما يسهم بنصيب الأسد من خدمات الرعاية الصحية داخل المستشفيات.
معنويا، يصارع الأطباء انحسار التقدير الأدبى، فرغم تفانيهم فى العمل قرابة مائة ساعة أسبوعيا، بواقع 14 ساعة يوميا، ما برحوا يفتقدون أماكن الإقامة اللائقة بمقار عملهم. ويتزامن ذلك مع غياب ضمانات صحية أو إنسانية ملائمة، ونقص الرعاية التى تناسب خطورة عملهم، وحيوية دورهم. فأثناء جائحة كورونا، على سبيل المثال، لقى أكثر من ألف طبيب حتفهم. ناهيك عن تفنن الإعلام، غير المهنى، فى التشهير بما دأب على تسميته «الأخطاء الطبية»، التى لا تعدو كونها أخطاء فردية، دون إغفال لتكرارها وتهوين لخطورتها. بينما يتجاهل إبداعات ونجاحات تدنو من الإعجاز، رغم تواضع الإمكانات والتجهيزات. ففى مصر يحاسب الطبيب على احتمالات الخطأ الطبى أمام القانون الجنائى، وليس قانون المسئولية الطبية ومن ثم، يدخل فى دائرة التقاضى الجنائية، التى لا تعترف فى كثير من الأحيان، بآراء اللجان الطبية المتخصصة. فى المقابل، يفتقد الأطباء آليات الحماية الفاعلة من بطش واعتداءات بعض المواطنين، حيث زادت خلال الآونة الأخيرة، حالات تعدى المرضى أو مرافقيهم على الكادر الطبى. وخلافا لما هو متبع فى غالبية دول العالم، ثمة قصور مرعب فى الإجراءات الأمنية، التى يفترض أن تحمى الطبيب من أى تجاوز أو اعتداء فى ميدان عمله.
عربية بامتياز، أضحت ظاهرة هجرة الطواقم الطبية، حيث أكدت منظمة الصحة العالمية فى سبتمبر الماضى، مغادرة زهاء 40%من أطباء لبنان، ونحو 30% من ممرضيه، بلدهم منذ أكتوبر 2019. بدورهم، بات الأطباء السوريون يشكلون أكبر تجمع للأطباء الأجانب فى ألمانيا، بواقع خمسة آلاف طبيب. أما الطيور المصرية الطبية المهاجرة، فتمثل أضخم جالية طبية تقود القطاع الصحى فى بريطانيا.
آن لمصرنا أن تتحرر من هذا الكابوس المزعج. وحرى بجمهوريتها الجديدة، الطامحة إلى اللحاق بركب النهضة والازدهار، أن تبلور استراتيجية متكاملة، ومرنة، وقابلة للتطبيق الفورى، بغية تهيئة بيئة العمل اللائقة بكوادرنا الطبية، بداية من تذليل جميع العقبات المادية، وصولا إلى استحداث برامج متطورة ومستدامة للتأهيل، والتدريب، والبحث العلمى، لشباب الأطباء وأساتذتهم. فلعل التوفيق يحالفنا، ونتمكن من وقف نزيف جيشنا الأبيض، واستنقاذ أحد أبرز مرتكزات رأس مالنا البشرى.