نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب «الصادق الفقيه» عن أهمية دور الفيلسوف وتأثيره فى مجريات السياسة العالمية.
استهل الكاتب حديثه عن نظريّة المَعرفة التى تفترض أنّ تأثير الفكر فى مجالات الحياة المُختلفة يُحَدِّثُ بِلُغَةٍ ذهنيّة تكون مفهومة لأطراف الحوار. وتتكوّن هذه اللّغة من نظامٍ تمثيليّ يتمّ إدراكه حسّيا فى ذهن المفكّرين، وله بنية تركيبيّة، ودلالات، بحيث تكون عمليّات التمثيل حسّاسة من الناحية السببيّة فقط للخصائص النحويّة لِلْتَمَثُّلات الرمزيّة الحاملة للمعنى. ووفقا لمنطق العِلم، فإنّ الفكر هو، تقريبا، ظهور تمثيل له بنية نحويّة تأسيسيّة، مع دلالات منطقيّة مُناسبة. وهكذا يتكوّن التفكير فى العمليّات النحويّة المحدَّدة على مثل هذه التَمَثُّلات. وتستمدّ معظم حِجج الفكر قوّتها من قدرتها على شرح بعض الظواهر التجريبيّة؛ مثل التلقّى، الذى يُعين على تقارُب الفكر والتفكير لإنتاج حالات التماثل.
عليَّ أن أروى كيف أخذتنى صحبةُ ماجدٍ، مثل الدكتور وجيه قانصو، الفيلسوف اللّبنانى المتنوّر، إلى عاصمتَين أوروبيّتَين، هما بروكسل وكوبنهاجن، فى فترتَين زمانيّتَين مُختلفتَين، بدعوة من الفريق العربى للحوار الإسلامى المسيحى. وجرى الحوار فيهما بينى ووجيه بذهنيّتَين مُتقاربتَين، غير أنّ حسّ التلقّى عندى تعلَّق بحالتَين: فكريّة وسياسيّة، أطرهما زمن وظيفة اكتساب المعيشة.
ففى العاصمة الأوروبيّة / البلجيكيّة بروكسل، التى استضافنا فيها الاتّحاد الأوروبى فى نوفمبر 2014، جالت بنا أحاديث أوقات الفراغ حول الكثير من إشكاليّات الفلسفة، وكان الدكتور وجيه شديد الميل إلى فيلسوف تتبدّى آثار فكره فى فضاء الثقافة الفرنسيّة؛ وبعض بلجيكا هى جزء من هذا الفضاء. وأذكر أنّه ما ورد اسم بول ريكور إلّا أفاض وجيه فى رَسْم مَلامح جدليّاته؛ من الوجود الذاتى، الذى يدّخره للشخص، إلى الوجود التفاعلى للغَير، وما يُشكّله التاريخ من بُعدٍ زمنى للوجود الإنسانى كلّه. وقد كنتُ أستمع بذهنِ مَن يشغله الفكر، لا السياسة، التى فيها للفيلسوف ريكور باع التأثير والتقدير، كما سيتّضح.
وتجدَّد اللّقاء مع الدكتور وجيه، فى يونيو 2016، فى العاصمة الدنماركيّة، كوبنهاجن، حيث استوعبت أحاديثنا الجانبيّة أقاصيص الفيلسوف اللّاهوتى سورين كيركغارد، الذى عاش بين 5 مايو 1813و11 نوفمبر 1855. وكان لفلسفته تأثيرٌ على الفلسفات الوجوديّة المؤمِنة، أكبر بكثير من أثر الوجوديّة المُلحِدة للفيلسوف الفرنسى جان بول سارتر. إذ يمثّل الإيمان نقطة ارتكاز رئيسة عند سورين، يستطيع الإنسان من خلاله تحقيق إرادته، بتوحّدها مع الله عن طريق الامتثال لأوامره، التى تمثِّل نسقا قِيميّا وأخلاقيّا مُغايرا للأنساق البشريّة، لأنّ الله عند كيركغارد هو المصدر الأساس للقوانين الأخلاقيّة.
وهنا، فى كوبنهاجن، اختلفت مطلوبات الذّهن المُحاوِر والمتلقّى بعدما أحكمت الوظيفة الدبلوماسيّة قيدها السياسى المُنضبط على لسان التصريح، ورَوَّضَ الحذر الدبلوماسى فتاوى الجرح والتعديل. فالمسألة هذه المرّة تجاوزت العثور على الحقيقة الصحيحة فى تجريداتها الفكريّة، إلى تحسِّس ما يُمكن أن تكون قد رسَّخته هذه الفلسفة الأخلاقيّة المتعاليّة لكيركغارد على السياسيّة فى هذه الدولة الاسكندنافيّة القصيّة، وإن كان العثور على الفكرة القِيمَة، عند صاحبى وجيه، هى الأجدر بالتَقَصِّى، وفى هذه الحالة خاصّة، هى الأقرب إلى أن نُمْسِكَ بها، وليس تجلّيات الأثر السياسى، على أوضاع بلد كالدنمارك أشبعته الحروب الإقليميّة عُزْلَةً، فتدثَّر بيقينيّات فلسفة أخلاقيّة أورثته التراضى الاجتماعى المشهود.
***
وما من شكّ فى أنّ تلك الحوارات كانت فاتحة مَنافذ كثيرة على أهميّة استحضار الفلسفة فى قراءة الأفكار المُؤسِّسَة لغَير قليل من الحركات الاجتماعيّة والسياسيّة فى العالَم؛ إذ لا يزال القادة العالميّون، والمنظّرون على مستوى القاعدة، يُشيرون إلى الفلاسفة كمَصدر إلهام وراء نظرتهم السياسيّة؛ فقد أمضى الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون سنوات فى العمل مع الفيلسوف بول ريكور، وحتّى الحركة الوطنيّة الأمريكيّة البيضاء المعروفة باسم «اليمين البديل» ــ لها أبطالها من الفلاسفة، الذين تُحاجج بتصوّراتهم. إذن، لأولئك الذين يأملون فى فَهم السياسة فى العام 2018، هنا عدد قليل من الفلاسفة الذين يستحقّون المعرفة والتتبّع.
إنّ استخدام ماكرون المتكرّر لعبارة «وفى الوقت نفسه»، على الرّغم من بساطتها، تُعبِّر عن انعكاس لتأثير بول ريكور. فالفيلسوف ريكور، المعروف بكونه واحدا من أعظم المفكّرين الفرنسيّين فى القرن العشرين، كان معروفا بآفاقه الجدليّة. وبدلا من عرض رأى قويّ، كان ريكور، الذى توفّى فى العام 2005، يميل إلى الاعتراف بوجهتَى نظر متناقضتَين ومحاولة التوفيق بينهما. وقبل أن يصبح ماكرون سياسيّا، قضى عامين فى العمل مع ريكور، وكان أثر تفكير الفيلسوف واضحا فى كيفيّة قيام ماكرون بالوظيفة السياسية. فالرئيس الفرنسى براجماتى بشكلٍ لافت، ولا يتشدّد فى التمسّك بأيّ عقيدة سياسيّة. ويبدو ماكرون سعيدا تماما فى اختياره للأفكار من اليمين واليسار، ما يجعل من الصعب التنبّؤ بكيفيّة تفاعله مع الأحداث الجارية.
أمّا فيلسوف نظريّة التطوّر تشارلز داروين، فقد أراد أن يقنعنا بقوله «إنّ البقاء للأصلح»، وزيّنها الدكتور مصطفى محمود بملاحظة «البقاء للأجمل»، فى مُقارنته الفطنة بين البغل والحصان، إلّا أنّ السياسيّين الغربيّين قرأوها بمنطق «البقاء للأقوى».
وفى روسيا، قد لا يكون أليكساندر دوغين فيلسوفا مرموقا، لكنّ الرجل المعروف باسم «دماغ بوتين» يعتبر نفسه بالتأكيد مفكّرا مؤثِّرا. وهو إلى جانب ذلك، مُعجَب كبير بالرئيس الأمريكى دونالد ترامب، الذى وصفه بأنّه «بوتين الأمريكى». على الرغم من أنه يعتقد أنه يجب أن يكون هناك العديد من القوى العالمية، وأن روسيا يجب أن تقود الكتلة، التى كانت تغطى الاتّحاد السوفييتى؛ إذ إنّ هذه الأراضى الروسيّة ستدعم التسلسل الهَرمي والتقاليد والهيكل القانونى الصارم فى مختلف أنحاء المنطقة. فى حين يُمكن لأمريكا الشماليّة وأوروبا أن تنشغل بأعمال اللّيبراليّة، والحقوق الفرديّة، والأسواق الحرّة.
ويرى دوغين أنّ سياسات ترامب القوميّة مُناسِبة تماما لمثل هذه التطوّرات، ويعتبره مُعارِضا إيجابيّا للنخبة العالميّة اللّيبراليّة. غير أنّ كتابة دوغين غير مُتماسكة إلى درجة تبدو فيها مشوّشة، إذ يعتمد على تفسيرٍ مشكوك فيه لمارتن هيدغر ويُجادل بقوّة ضد قبول التكنولوجيا واستخدامها. لذا، فإنّ مدى تأثيره غير مؤكَّد. ولكن بصرف النَّظر عمّا إذا كان الرئيس الروسى فلاديمير بوتين يقرأ أعماله بعناية أم لا، فإنّ دوغين يتمتّع بمَكانة بارزة داخل روسيا.
***
أمّا فى الصين، فلا يزال تأثير الفيلسوف التاريخى كونفوشيوس محسوسا منذ آلاف السنين. ويُعتبر الزعيم الصينى شى جين بينغ من أشدّ المُعجبين به. ومع نموّ النفوذ الاقتصادى والسياسى العالمى للصين، فإنّ أولئك الذين يأملون فى فَهم سياسات بينغ سيحسنون التقدير بالنّظر إلى مدرسة الفلسفة الكونفوشيوسيّة، التى يبلغ عمرها 2500 عام. إذ يقول بريان فان نوردن، أستاذ الفلسفة فى كليّة ييل ــ نوس، إنّ الكثير من اهتمام بينغ بالكونفوشيوسيّة هو نَوع من الانتهازيّة. وقال فان نوردن «إنه يستشهد فى بعض الأحيان بالكلاسيكيّات الكونفوشيوسيّة بالطريقة التى يستشهد بها بعض الساسة الأمريكيّين الساخرين بالإنجيل»، ويضيف «لأنّ الكونفوشيوسيّة أبويّة، فإنّ [بينغ] يشجّعها من أجل إعطاء شعب الصين مجموعة من القيَم للاعتقاد بأنّه يأمل أن يشجِّع الطّاعة».
ويقول فان نوردن إنّ معظم الناس فى الصين لم يعودوا يدينون بالقيَم الشيوعيّة، وبينغ يَستخدم الكونفوشيوسيّة للتشجيع على الإذعان. ويلاحظ فان نوردن أنّ هذا خطأ فى القراءة، إذ يقول إنّ «كونفوشيوس يشدِّد على الحُكم بالإقناع»، ودائما مع «سعادة عامّة الناس» كهدفٍ نهائى. ومع ذلك، يبدو أنّ بينغ يعتقد بصدق فى بعض المُثل الكونفوشيوسيّة. وكما يستكشف فان نوردن فى كتابه «إعادة الفلسفة.. بيان متعدّد الثقافات»، آمن كونفوشيوس بقوّة بأهميّة نَزاهة الموظّفين العموميّين. وقاد بينغ، فى المقابل، حملة لمُكافَحة الفساد. غير أنّ فان نوردن يُشير إلى أنّ تأييد بينغ القوى لكونفوشيوس قد لا يؤدّى إلى الخضوع الذى يريده: «فالكلاسيكيّات كلاسيكيّة لسبب ما، وإذا شجَّع الحكّام الناس على قراءتها، فقد لا يكونون سعداء بالمُثل البطوليّة التى يلهمونها». ففى الواقع، ومن الناحية التاريخيّة، غالبا ما عارَض أتباع كونفوشيوس القوانين التقليديّة الحكوميّة.
يختتم الكاتب حديثه بأن علماء الاجتماع والسياسة أفادوا من رؤية كيركغارد للقانون والأخلاق، فى مقايسته لامتثال سيّدنا إبراهيم لإرادة السماء، وهو يهمّ بذبْح ابنه كان يشرع فى القيام بعملٍ يتعارض مع القوانين البشريّة، فما اعتبرته قوانين السماء طاعة وإيمانا كان جريمة شنعاء وفقا لقوانين الأرض، لكنّ إبراهيم، عليه السلام، كان يتحرّر فى تلك اللّحظة، بشكلٍ كامل من كلّ ما يُمكن أن يحدّ من حرّيته. وقد جَسَّد بامتثاله لأوامر الله الإرادة البشريّة الحرّة بأسمى معانيها. لذا، فإنّ أفكار الفلاسفة، مثل كيركغارد، وكونفوشيوس، وريكور، وهابرماس، تستحقّ القراءة ببساطة، لأنّها رائعة. واليوم، يجدر بِنا قراءتها أيضا من خلال عدسة الفلسفات السياسيّة التى ألهمتها. فالفلسفة لديها سمعة البقاء داخل برجها العاجى، ولكنّ أفكارها تُنَوِّر وتُشَكِّل وُجهات نظر أولئك الذين يُمارسون السلطة.
النص الأصلي: