منذ أن برزت الصين كمنافس اقتصادى جدى للولايات المتحدة، تصاعدت الحملة لتصل إلى ما يشبه الحرب التجارية والاقتصادية على الصين، وذلك بهدف إضعاف مواقعها فى الاقتصاد العالمى ودورها على الساحة السياسية الدولية. وبدأت الإدارات الأمريكية المتعاقبة اعتماد سياسات القيود التجارية والعقوبات المتصاعدة، وبصورة خاصة ضد الشركات الصينية العاملة فى مجال التكنولوجيا فائقة الدقة. واحتدم الصراع حول أسواق الشرائح الإلكترونية وأشباه الموصلات، التى تشكل عمليا جزءا لا يتجزأ من قطاع التكنولوجيا فائقة الدقة. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لا تزال تحتفظ بموقع الريادة فى إنتاج هذه السلع، فإن حصتها من الإنتاج العالمى لأشباه الموصلات انخفضت من 37% فى العام 1990 إلى 12% فى الوقت الراهن.
وفى المقابل، سعت الصين إلى توفير البيئة الملائمة لاجتذاب رءوس الأموال الأجنبية، ووجهت استثمارات عامة كبيرة فى اقتصاد المعرفة، ما أتاح لها تحقيق نجاحات كبيرة فى تطوير قطاع التكنولوجيا فائقة الدقة والابتكارات والعلوم المرتبطة بها، وعملت على تحديث الصناعة. وقد أثار تعزيز مواقع الصين فى هذه الميادين، وكذلك النجاحات الباهرة فى مجال الذكاء الاصطناعى وتكنولوجيا المعلومات والبيوتكنولوجيا قلقا جديا لدى واشنطن.
عندما فرض الرئيس دونالد ترامب رسومه الجمركية العقابية على الصين، وعلى بلدان عدة أخرى، توقع المراقبون تراجعا بنسبة 80% فى التجارة بين البلدين، بما يؤدى إلى تراجع حجم الصادرات الصينية بنسبة 15%، الأمر الذى من شأنه أن ينعكس سلبا على النمو الاقتصادى فى الصين. ومن جهتها، ستواجه الولايات المتحدة نقصا فى السلع الاستهلاكية وارتفاعا حتميا فى أسعارها، وكذلك صعوبات فى تصدير السلع الأمريكية إلى السوق الصينية نتيجة الردود المماثلة التى لجأت أو ستلجأ إليها بكين. فمن المتوقع أن تنخفض ربحية المؤسسات الأمريكية مع احتمال تزايد حالات الإفلاس، وما يرافقها من ارتفاع معدلات البطالة. أما القرارات المتقلبة والمتناقضة التى يتخذها الرئيس الأمريكى، فلا تؤدى سوى إلى تفاقم التداعيات السلبية.
كيف ستتعامل بكين مع العقوبات الأمريكية؟ عندما تلجأ واشنطن إلى فرض رسوم جمركية عالية على السلع الصينية، ستضطر هذه الأخيرة إلى العمل على تحفيز الاستهلاك الداخلى للتعويض عن الخسائر المحتملة فى الأسواق الأمريكية. كما أنها ستعمل على إعادة توجيه مسارات التصدير إليها عبر بلدان أخرى (إعادة التصدير بطرق ملتوية أحيانا) الأمر الذى سيؤدى إلى ارتفاع كلف التصدير، وإلى ارتفاع أسعار السلع الصينية فى السوق الأمريكية فى نهاية المطاف. والذى سيتأثر من ذلك هو المستهلك الأمريكى فى الدرجة الأولى.
من جهتها ستعمل واشنطن على إعادة إحياء الصناعات المحلية التى عانت قطاعات واسعة فيها نتيجة السياسات التى اتبعتها الشركات الأمريكية فى ظروف العولمة الاقتصادية، وتمثلت بنقل الإنتاج إلى الخارج سعيا وراء الأرباح الطائلة التى وفرتها لها هذه السياسة. بيد أن «إعادة التصنيع» التى ترفع إدارة ترامب لواءها دونها عقبات، ولن تجرى بالسلاسة والسرعة التى ترغب بها. فإعادة الإنتاج إلى الداخل تحتاج إلى كوادر محترفة ويد عاملة ماهرة بأعداد كافية، وفى فترة زمنية قصيرة، وهو أمر ليس باليسير، وإلى خامات ومواد مصدرها الأساسى الصين نفسها، حيث تجرى عملية معالجتها. وبحسب معطيات منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية (OECD)، فإن القطاعات الصناعية الأمريكية الأكثر ارتباطا بالمواد والمكونات الصينية هى صناعة النسيج وصناعة السيارات والآلات والتجهيزات الكهربائية.
أبعاد جيوسياسية
يشكل تنافس المشروعات الكبرى ذات الطابع الجيو/ اقتصادى، كمشروع «الحزام والطريق» الصينى الذى يهدف إلى إحياء «طريق الحرير» القديم، وشبك العديد من الدول فى آسيا وإفريقيا وأوروبا وأوراسيا فى شبكة علاقات تجارية واقتصادية متشعبة ذات أبعاد جيوسياسية، وكالمشروع الأمريكى المعروف بـ «الممر الهندى» الذى يربط موانئ الهند بميناء حيفا، وصولا إلى أوروبا والذى تطمح الولايات المتحدة من خلاله إلى قطع الطريق على المشروع الصينى وإفشاله، تنافس المشروعات هذا يشكل عنوانا رئيسا للصراع الدائر بين القطبين.
وتحتل المسألة التايوانية موقعا مركزيا فى الصراع الدائر بين القطبين، وذلك مع إصرار بكين على عودة تايوان إلى «حضن العائلة الصينية»، مقابل إصرار واشنطن على بقائها مركزا للنفوذ الأمريكى وقاعدة عسكرية واقتصادية متقدمة للمحور الغربى، وتبقى عقدة كأداء و«قنبلة موقوتة» قابلة للانفجار فى أى لحظة. وتولى بكين أهمية أولوية لاستعادة سيادتها على الجزيرة. وهى مهمة لا تتسم بطابع رمزى ووطنى فحسب، بل واستراتيجى فى الدرجة الأولى. إذ إن السيطرة على الجزيرة تتيح لبكين إمكانية الخروج من دون عوائق نحو المحيطين الهندى والهادئ، وتأمين حرية المناورة لأسطولها الحربى فى ظروف الحصار المفروض على البحار الصينية الداخلية. وتبرز أهمية هذه المهمة وإلحاحيتها بالنسبة إليها لكون أكثر من ثلثى إمداداتها من موارد الطاقة تمر عبر مضيق ملقا (مضيق ملقا، أو المضيق الماليزى، الذى يقع فى جنوب شرق آسيا بين شبه جزيرة ماليزيا وجزيرة سومطرة، ويصل عرضه فى أضيق مكان إلى 2,8 كلم فقط. وتكمن أهميته الاستراتيجية فى كونه الممر الأساس لتزويد كل من الصين واليابان بالنفط).
فى المقابل، ترى واشنطن فى الحفاظ على الوضع القائم حول تايوان شرطا ضروريا لتدعيم زعامتها المهتزة فى العالم. فالجزيرة تمثل بالنسبة إليها أداة بالغة الأهمية لإظهار نفوذها وحضورها فى المنطقة واستعراض قوة أسطولها الحربى وفاعليته فيها. إذ إن أى خلل أو ضعف يصيب هذا الحضور أو تلك القوة من شأنه تقويض ثقة حلفائها بالضمانات الأمريكية لأمنهم، وأن تنجم عنه سلسلة من ردود الفعل السلبية لدى القوى الإقليمية قد تدفع بعضهم للخروج من تحت العباءة الأمريكية. وهكذا، فيما تسعى بكين إلى إضعاف نفوذ واشنطن فى البحار الآسيوية وتقويض سمعتها ودورها كضامن لأمن حلفائها، تبدو مهمة الحفاظ على ثقة هؤلاء الحلفاء مهمة محورية بالنسبة إلى الولايات المتحدة.
يقترن ذلك كله بمحاولات بكين (بمشاركة روسيا) تطوير ممرات للنقل البرى فى أوراسيا بعيدة عن التأثيرات الخارجية، والسعى إلى إقامة بنى تحتية مالية خاصة بها أو فى إطار مجموعة «بريكس»، خارج السيطرة الأمريكية والغربية عموما ورقابتهما. وفى المقابل، تسعى واشنطن إلى إحباط هذه الجهود وإلى محاصرة محاولات بكين توطيد علاقاتها الاقتصادية مع حلفاء واشنطن فى أوروبا ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ، وكذلك فى العديد من بلدان العالم الثالث، فى إفريقيا على وجه الخصوص.
عواقب المجابهة بين القطبين
إن المجابهة بين القطبين، وخصوصا إذا تحولت إلى نزاع عسكرى، يمكن أن تكون لها تداعيات بعيدة الأثر، أبرزها:
أولا، شلل المواصلات البحرية والجوية فى شرق آسيا وجنوب الصين لفترة طويلة، والتى تعتبر واحدة من أهم طرق النقل العالمية. ومن شأن ذلك أن يؤدى، وخصوصا إذا تحولت المنطقة إلى ساحة حرب، إلى انهيار قسم من التجارة الدولية وإلى ارتفاع أكلاف النقل وإلى البحث عن سبل بديلة ستكون أعلى كلفة وأقل فاعلية. ويمكن أن يعطى ذلك زخما كبيرا لطرق المواصلات البرية بين الصين وأوروبا. بيد أن القدرة المرورية الراهنة لهذه الطرق لا تسمح بنقل أكثر من 10% من مجمل التجارة الخارجية الصينية.
ثانيا، إن الصراع حول تايوان ينطوى على خطر انكماش عالمى يوازى الصدمات المالية لحقبة بداية القرن الحالى. بل يمكن أن تفضى الأزمة إلى حرب اقتصادية شاملة، تشمل تجميد الأصول المالية وفرض قيود وعقوبات على الاستثمارات والتبادل التجارى. ويمكن أن تدفع الصين إلى التخلى عن سندات الخزينة الأمريكية، بما يؤدى إلى تهاوى قيمتها. وثمة توقعات تشير إلى تراجع الناتج المحلى الإجمالى العالمى بنسبة تصل إلى 10%، الأمر الذى يشكل ضربة قوية تزعزع الاقتصاد والنظام المالى العالميين.
ثالثا، ستلحق الأزمة ضربة قاسية بالصناعات الإلكترونية فى تايوان، الرائدة فى إنتاج الرقائق الإلكترونية فائقة الدقة (تنتج تايوان 60% من الشرائح الإلكترونية عموما، وقرابة 90% من الشرائح فائقة الدقة التى تستخدم فى صناعة السيارات والمعدات الطبية والصناعات الدفاعية والإلكترونيات). فأى أعمال حربية فى المنطقة ستؤدى إلى تقلص الإنتاج أو توقفه بالكامل، ما يسبب انهيارات كبيرة فى الصناعات الحديثة.
رابعا، ستدفع الأزمة الصين إلى تعزيز التقارب والعلاقات التحالفية مع شركائها فى مواجهة المنافسين الاستراتيجيين. ومن شأن ذلك أن يؤدى إلى نشوء تكتلات تكنولوجية واقتصادية مغلقة على بعضها بعضا، ولديها، استطرادا، معاييرها وأنظمة مدفوعات وسلاسل إمداد خاصة بها. ويعنى هذا عمليا انتهاء عصر العولمة التى عهدناها فى العقود الثلاثة الأخيرة.
فى الختام، نقول إن النزاع لن ينتهى بانتصار واضح وصريح لأى من الطرفين. فحتى لو نجحت الولايات المتحدة فى حماية تايوان، فإنها لن تنجح فى وقف صعود الصين كقوة عظمى. وبدورها الصين، حتى لو حققت نجاحا فى تحقيق أهدافها فى تايوان، فإنها لن تنجح فى إرغام الولايات المتحدة على التخلى عن استراتيجية احتوائها، وعن بذل كل ما يلزم لتحصين هيمنتها وتعزيزها. بل إن النزاع سيدفع البلدين إلى درجة من التنافس على الصعيد العالمى، أعلى بالتأكيد، وأشد ضراوة.
محمد دياب
مؤسسة الفكر العربى
النص الأصلى:
https://bitly.cx/FCXLl