أعرف أن كثيرين من أصدقائى ومن القراء لن يعجبهم ما سيقرءونه فى هذا المقال، وقد راودتنى فكرته منذ زمن، وترددت فى الكتابة عنها، ليس إيثارا لتجنب الخلاف مع أصدقاء نضال أعتز بهم، ولكن لأن دواعى طرح قضيته لم تكن واضحة مثل وضوحها منذ يوم الأربعاء قبل الماضى مع إصدار محكمة جنايات القاهرة حكمها الصادم ببراءة كل مسئولى النظام السابق وأعوانهم المتهمين بتدبير المذبحة المعروفة بموقعة الجمل. والذى أوضحه هذا الحكم، وكان متوقعا من كثيرين، هو أن أسلوب المحاكمات القضائية وفقا لقوانين موروثة من العهد السابق، ومع التواطؤ الصارخ للمسئولين فى أجهزة سيادية معروفة فى إخفاء الدلائل المدينة لكل هذه القيادات، ومن سبقوهم فى المحاكمة مع الرئيس السابق أمام محكمة أمن الدولة العليا، أسلوب هذه المحاكمات لن يجدى فى تحقيق العدالة وفى القصاص لشهداء الثورة ولكل من اشترك وناصر ثورة الخامس والعشرين من يناير.
وليس السبب فى عدم جدوى هذه المحاكمات شخص النائب العام، ولكن لأن القوانين السائدة حتى الآن لا تعاقب على الجريمة الكبرى التى ارتكبها هؤلاء المسئولون فى حق الوطن، وهى جريمة الإفساد السياسى، وإذا كان البديل عن ذلك هو اتهامهم بقتل الثوار أو بالفساد المالى، فالمحاكمة الجنائية عن هاتين الجريمتين لا تكون رادعة إلا إذا توافرت شروط يصعب التحقق منها، وهى فى الحالة الأولى وجود أدلة لا تقبل الدحض أن واحدا منهم قد شارك أو أصدر أوامر محددة بقتل أشخاص معينين، أو أن ثروته قد تضخمت بدون أن يكون هذا التكسب قد تم بمخالفة القانون، وهى مسألة يستطيع المحامون الذين يستعين بهم هؤلاء أن يجدوا لهم مخرجا سهلا منها، فقد تخصص بعض هؤلاء المحامين فى اكتشاف ثغرات القانون التى تمكنهم من طلب البراءة أو تخفيف الحكم عن موكليهم.
أيا كانت فداحة الجرم الذى ارتكبوه. وعلى أى الأحوال فهذه الأدلة لا تتوافر للنيابة العامة إلا إذا تعاونت معها أجهزة الدولة المسئولة عن جمع المعلومات، ولا يبدو أن هذا الشرط قد تحقق فى هذه المحاكمات، فقد صرح ممثل الإدعاء فى محاكمة مبارك أنه لم يلق تعاونا من أجهزة الأمن المختلفة لا فى وزارة الداخلية ولا فى وزارة الدفاع، ولا فى المخابرات العامة، وقد جرى تبرير الإطاحة برئيس الرقابة الإدارية السابق بأنه كان يخفى ملفات الفساد التى تدين مسئولين سابقين.
ولهذه الأسباب تبدو محاولة رئيس الدولة إقالة النائب العام على غير ما يقضى به القانون ذرا للرماد، عمدا أو استسهالا، عن المسئولين الحقيقيين الذين أخفوا هذه الأدلة، فضلا على أن مخالفة القانون على هذا النحو الصارخ، وبعد جمع الرئيس لسلطتى الإعلام والأمن الوطنى فى يديه، هى خطوة من بين خطوات متعاقبة، ولنقلها بصراحة، لصناعة الدكتاتورية من جديد.
●●●
ولكن كيف يمكن تحقيق العدالة فى هذا الظرف الدقيق؟ بطبيعة الحال من المتوقع أن يطلب النائب العام الطعن فى الحكم، وإعادة المحاكمة أمام محكمة النقض، ولكن فى غياب الأدلة التى تم إعدامها أو إخفاؤها لن يجد قضاة النقض مفرا من إعادة تأكيد نفس الحكم الذى أصدرته محكمة الجنايات. يمكن طبعا لرئيس الجمهورية أن ينقل المسألة برمتها من القضاء ويحولها إلى محكمة سياسية مثل ما تكرر فى مناسبات عديدة فى تاريخ مصر المعاصر منذ ثورة 23 يوليو مثل محكمتى الثورة والغدر فى أعقاب الثورة مباشرة، والمحكمة السياسية التى شكلها الرئيس السادات لمحاكمة خصومه فى الاتحاد الاشتراكى العربى فى سنة 1971. سوف يعتبر اللجوء إلى هذه المحاكمات السياسية سقطة خطيرة لنظام يدعى انبثاقه من ثورة يناير لأنه ليس هناك ما يضمن ألا تستخدم هذه المحاكمات السياسية فى التنكيل بالخصوم السياسيين لحزب الحرية والعدالة، فضلا على أن أوان المحاكمات الثورية قد انقضى بانتخاب رئيس للجمهورية أقسم عند توليه منصبه على احترام الدستور والقانون.
قد يكون المخرج هو فى الاسترشاد بالمثل الرائع الذى ضربته جنوب إفريقيا إبان تخلصها من نظام الحكم العنصرى، وهو بكل تأكيد أبشع كثيرا من أى نظام تولى حكم مصر لأنه كان لا يعترف بآدمية أغلبية مواطنى البلد الأصليين. وما فعله قادة جنوب إفريقيا من حزب المؤتمر الإفريقى بزعامة نيلسون مانديلا هو تشكيل لجان شعبية للحقيقة والمصالحة، يذهب إليها هؤلاء المسئولون السابقون بحكم قانون جديد يجعل الذهاب لها ملزما إن شاءوا التمتع بكامل حقوقهم السياسية والاقتصادية، يعترفون إن شاءوا بأخطائهم فى حق الشعب، ولهذه اللجان أن تقرر إذا كان اعترافهم أمينا وصادقا أن تسمح لهم بممارسة جميع حقوقهم السياسية، ولكنها تدعو الشعب إلى مقاطعة من لا يمثل أمام هذه اللجان، وألا يؤيد من تقضى بأن اعترافه لم يكن خالصا ولا كاملا. ومن المقترح أن تتخذ جماعات حقوق الإنسان فى مصر المبادرة بالدعوة إلى تشكيل هذه اللجان، وأن تضمن تشكيلها الثقات من رجال القانون من القضاة السابقين ومن أساتذة القانون المشهود لهم بالنزاهة والمعرفة الواسعة فضلا عن شخصيات عامة تحظى بالاحترام وكذلك من رجال الدين المسلمين والمسيحيين. العقوبة الوحيدة التى يمكن أن تقررها هذه المحكمة هى عقوبة لا تسلب الحرية، ولكنها تتمثل فى دعوة الشعب لمقاطعة هؤلاء الذين لا يذهبون إلى هذه اللجان، أو لا يكشفون الحقيقة ولا يطلبون التوبة أمامها.
لقد شهدت بنفسى الزنزانة التى قضى فيها نيلسون مانديلا قرابة ثلاثين عاما فى جزيرة روبن يعانى فيها من الوحدة والاضطهاد والإهانة، وزرت الشقة الصغيرة التى كان يزاول فيها عمله ونضاله قبل سجنه من جانب السلطات العنصرية، وهى فى قلب سويتو، التى كانت واحدة من المعازل التى كان المواطنون السود والملونون يقيمون فيها بعد عودتهم من أعمالهم فى خدمة الاقتصاد الأبيض فى مدينة جوهانسبرج، ومازال البؤس يخيم عليها رغم انقضاء سنوات الحكم العنصرى، وتملكنى العجب كيف استطاع مانديلا بعد العقود الثلاثة التى قضاها سجينا فى جزيرة روبن ومالقيه فيها من صنوف الإهانة، أن يرتفع على الأحقاد، وأن يدعو أبناء وطنه جميعا إلى المصالحة والبعد عن روح الانتقام، وكيف تبعته أغلبية المواطنين فى دعوته هذه وتقبلت حكم لجان الحقيقة والمصالحة.
●●●
لا شك أننا أمام اختبار صعب، وهو أن نرتفع بدورنا عن مستوى المرارة الذى نشعر به لأن العدل لم يتحقق لا فى هذه المحاكمة الأخيرة ولا فى غيرها، كما أن القصاص الذى يدعو إليه كثيرون من أسر الشهداء وغيرهم يبدو بعيد المنال. ولكن ليس أمامنا فى الحقيقة سوى خيارين، أولهما أن نستسلم للرغبة فى الانتقام المشروع ممن طاحوا فى مصر فسادا سياسيا أو ماليا، ونترك وراءنا مهام بناء الوطن وإنقاذه من عثرته الخطيرة التى تعيدنا إلى السنوات الأولى من حكم مبارك بما كان فيها من مديونية متصاعدة وتضخم يئن تحت وطأته أغلب المواطنين وتردٍّ هائل فى نوعية الخدمات التى تقدمها الدولة، وثانيهما أن نلتمس الحكمة وسعة الأفق والنظرة البعيدة لمصلحة الوطن، وأن نسمو بأنفسنا عن الشعور بالمرارة ورفض الصفح عمن أساء إلينا جميعا بإفساد الحياة السياسية فضلا عن قتل متظاهرين سلميين. هل لديك خيار أفضل عزيزى القارئ؟. أتمنى لو كان هناك مثل هذا الخيار.