نشأت بين المثقفين والسلطة فى مصر على امتداد ستين عاما علاقة معقدة، لا تخلو من الشكوك المتبادلة وعدم الثقة والتربص الدائم. يذكر أبناء الجيل الذى أنتمى إليه أن إحدى أهم القضايا الوطنية فى عقد الستينيات كانت قضية الاستعانة فى إدارة شئون الأمة بأهل الثقة أم بأهل الخبرة. كانت الشكوى غامرة من انحياز النظام الحاكم إلى أهل الثقة، وأكثرهم من العسكريين السابقين أو العاملين ومن يجرى فى فلكهم، وتفضيلهم إياهم على أهل الخبرة عند التعيين فى الوظائف العامة وبخاصة المناصب الكبيرة. وكان فى حكم المتوقع دائما استبعاد جهات السلطة لكثير من الحاصلين على شهادات عليا من الخارج لمجرد أن مواقفهم السياسية خلال فترة وجودهم فى بلاد الدراسة العليا لم تكن على المستوى المطلوب.
عرفت عددا من المبعدين كانوا يدرسون فى أمريكا الشمالية، واجهوا صعوبات جمة مع المسئولين فى سفارتى مصر بواشنطن وأوتاوا، بسبب تقارير تطوع زملاء لهم بإرسالها إلى مكتب الرئيس عبدالناصر أو مكاتب فى الاتحاد الاشتراكى وأجهزة الأمن الداخلى فى مصر. أكثر هذه التقارير كان كيديا وبعضها احتوى على مبالغات تتعلق بمناقشات دارت فى منتديات الطلبة المصريين حول أسباب هزيمة 1967. كان الطلبة ينتقدون الخلافات بين أعضاء النخبة الحاكمة فى مصر وتدهور الأحوال الاقتصادية ونقص الحريات وانشغال القادة العسكريين بتفاصيل الحياة المدنية وتدخلهم فى شئون البيروقراطية على كافة مستوياتها. وكانت النقاشات تنتهى دائما بتحميل هذه الأخطاء مسئولية الهزيمة التى كسرت ظهورنا وجعلتنا محل السخرية فى الجامعات التى كنا ندرس فيها. أعرف مبعوثين عادوا إلى مصر ولم يجدوا من يهتم بشهاداتهم والخبرة التى اكتسبوها فى الخارج، بينما تولى زملاؤهم الذين سبق أن مارسوا مهمة كتابة التقارير مناصب سياسية وإدارية لا تتناسب مع أعمارهم وكفاءاتهم، وأكثرهم انصرف بعد قليل عن العمل الأكاديمى والعلمى وانشغل بالمناصب والمكانة السياسية.
المؤكد على كل حال والثابت فى المراجع والدراسات التى درست مقدمات الحرب وتفاصيلها هو أن تعالى المسئولين من خلفيات عسكرية على زملائهم ومرءوسيهم المدنيين وتجاهلهم أهل الخبرة والاعتماد بشكل مبالغ فيه على أهل الثقة وفقدان المؤسسة العسكرية لهيبتها نتيجة انخراطها فى العمل المدنى اليومى، كلها كانت بين أهم أسباب هزيمة 1967، بينما ساهمت الاستعانة بأهل الخبرة فى فترة سنوات قليلة، عرفت بفترة الاستنزاف والإعداد لحرب أكتوبر، فى تحقيق النصر.
يتحمل قادة النظام الحاكم فى مصر نصيبا وافرا من اللوم على تنامى الشعور المتبادل بعدم الثقة بين المثقفين والسلطة. كان بعض هؤلاء المثقفين يشكو من سوء معاملة رؤسائهم من أهل الثقة، وبعضهم وقتها من عسكريين، اعتقدوا باطلا، أن المدنى، وكان يطلق عليه الملكى، غير أهل للثقة. وكثيرا ما استخدموا معه أساليب التخوين والاتهام بالعمل لصالح قوى أجنبية. أما الاتهام الأكثر شيوعا فكان عدم المسئولية أو نقص الانضباط كنقيصة تهدد أمن العمل ومصالح الوطن. العديد من النصائح والمشورات التى كان المرءوسون المدنيون وأهل الخبرة يتقدمون بها إيمانا بواجبهم فى المشاركة فى بناء الوطن ضرب بها عرض الحائط بحجة أن وراءها أهدافا «طبقية» أو مصالح شخصية.
من ناحية أخرى، سادت سلوكيات سلبية بين المثقفين وكذلك أهل الخبرة فى كافة ميادين العمل الوطنى، بل إن كثيرين منهم انصرف إلى الانشغال بمنافع خاصة كالسفر للعمل فى الخارج، أو شعر بالاغتراب فى وطنه فاستسلم للاكتئاب أو النفور من العمل العام. ثم إن عددا من المثقفين الذين تعاونوا مع السلطة الحاكمة وقبلوا التعامل من موقع متدنٍ معها، كانوا شديدى الانتقاد فى مجالسهم الخاصة، وبعضهم تعرض للتحقيق والاعتقال وأحيانا كثيرة الفصل من العمل والمطاردة فى الرزق.
●●●
جاءت مرحلة أخرى فى حكم العسكر لمصر، كان رئيس الدولة يتعمد خلالها التندر والاستهزاء بكبار المثقفين واختار «الأفندية» تعبيرا يناسب درجة تحقيره لهم. حدث هذا على الرغم من أن هذا الرئيس لم يكن فى شبابه بعيدا تماما عن مجتمعات المثقفين والأنشطة الوطنية بكافة أنواعها. كان الأمل لدى بعض المتفائلين فى بداية عهده، ان تعود على يديه سلوكيات تحترم العقول وترفع من شأن المثقفين، خاصة وأنه بدأ بالفعل عملية تهدف إلى تقليص مشاركة العسكريين بشكل مكشوف فى الحياة السياسية والإدارية. ولكن حين تشجع المفكرون والمثقفون عموما على الخروج إلى العلن فى انتقاداتهم للسلوك السياسى والاقتصادى للنظام، انتهى الأمر بصدام كشف مرة أخرى عن الجوهر الاستبدادى للرئيس العسكرى الأصل. قاد الصدام رئيس الدولة بنفسه ضد هؤلاء «الأفندية» الذين تصوروا أن النظام الحاكم تخلى عن أساليب الاستبداد عندما خلع الزى العسكرى. أودع بعضهم السجن حتى رحل الرئيس عن الحياة وتولى الحكم من بعده قائد عسكرى آخر.
●●●
هكذا بدأت المرحلة الثالثة. لم يكن خافيا أن الرئيس الجديد ورث عن سلفه أسلوب «احتقار» المثقفين ولم يكن هذا الاحتقار وسياسات التحقير بسبب تمتعه بدرجة أعلى من الثقافة أو العلم أو الخبرة، فالواقع وشهادات من اقتربوا من تفاصيل عملية اتخاذ القرار السياسى كانت تؤكد العكس تماما، وإنما نتيجة تدريب طويل على أسلوب للقيادة والحكم يقضى بغرس الشعور بالدونية على المرءوسين كافة والمدنيين بخاصة. تصورنا جميعا خلال اللقاءات الدورية التى كان يدعى إليها رجال الأعمال والثقافة والفكر حيث كان الرئيس يتعمد استخدام لهجة السخرية عند الحديث مع مثقفين كبار، بعضهم ــ حسب علمى ــ كان صادق النية وراغبا فى حضور اللقاء أملا فى أن يستفيد من مساحة الحرية فى الكلام إلى المشاهدين والمستمعين خارج القاعة، فيقول رأيه أمام الرئيس ليسمع الشعب هذا الرأى وذاك الرد. كانوا قلة على كل حال وبين أبرزهم وأنقاهم محمد سيد أحمد ومحمد السيد سعيد قبل أن يرحلا عن هذه الدنيا.
●●●
مراحل ثلاث، لا توجد بينها مرحلة واحدة تعامل النظام السياسى بإيجابية مع المثقفين والمفكرين. ليس هذا وقت البكاء على حليب مسكوب ولن نندم على ما لم نفعله لتحسين شروط العلاقة بين السلطة الحاكمة والمثقف المصرى. مصر الآن على باب مرحلة جديدة، يحاول الثوار، وبعضهم ينتمون بالفعل أو بالحلم إلى جماعات المثقفين، ان يجعلوها بداية عصر جديد يختلف «جذريا» أى ثوريا عن العصر الذى بدأ فى الخمسينيات من القرن الماضى. لن أجازف بالتنبؤ وسط سيولة بالغة وهجمة مضادة ومتوحشة. ولكن أستطيع أن أعبر عن شعور جارف بالثقة فى أن لا عودة إلى الوراء مهما طال الزمن، فالثورات كالجرافات تزيح الركام من فوق السطح وتحرث الأرض فينمو النبت الجديد زاهيا وقويا.