ميادين لها تاريخ - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:39 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ميادين لها تاريخ

نشر فى : الأربعاء 23 مارس 2011 - 9:43 ص | آخر تحديث : الأربعاء 23 مارس 2011 - 9:43 ص

 نعرف الآن عن الميادين وتاريخها أكثر مما كنا نعرف فى أى وقت مضى، لم يخطر يوما على بالى أن أقضى ساعات اقرأ عن تخطيط المدن وأنا أبعد الناس عن فروع الهندسة كافة. حفزنى على الإلمام بالموضوع نفس ما حفز الشخصيات الأجنبية التى ما إن وطأت أرض مطار القاهرة إلا وأفصحت عن رغبتها زيارة ميدان التحرير. سمعت عن كثيرين طلبوا أول ما طلبوا خريطة توضح موقع الميدان فى العاصمة والطرق المؤدية له، وآخرون بحثوا عن كتيبات سياحية تلخص تاريخ هذا الميدان منذ نشأته وحتى يوم احتل فيه صدارة نشرات الأخبار فى جميع أرجاء العالم.

مرت الأيام، وانتقلت الثورة من تونس ومصر إلى بلاد عربية أخرى، وأضاف الثوار إلى ميدان التحرير ميدان القائد ابراهيم فى الإسكندرية وميدان الجيش فى السويس ثم انضم إلى قائمة الميادين الثائرة ميدان التغيير فى صنعاء ودوار اللؤلؤة فى المنامة وساحات متنوعة فى بنغازى.

●●●●


كان لميدان المنشية فى الإسكندرية مكانة خاصة فى سنوات المراهقة. فى البداية أثار انتباهى كمواطن قاهرى ان أهل الإسكندرية كانوا يطلقون على الميدان كلمة، بياظة، وأصلها فى الإيطالية بياتزا وكاد ميدان المنشية يكون الوحيد بين ميادين الإسكندرية الذى يحمل لقب البياظة، ربما لأنه أهم وأوسع ميادين الإسكندرية ولأنه الأقرب إلى صرح الجندى المجهول الذى شيدته الجالية الإيطالية كنموذج مصغر للصرح الأكبر المقام فى بياظة فينيسيا فى مدينة روما. ومنذ ذلك الحين وأنا أبحث فى المدن التى أزورها عن أهم ميدان فيها واسأل عن سبب أهميته والأحداث العظمى التى جرت فيه أو خرجت منه، فلا ميدان عرفت أو زرت إلا وخلف آثارا واضحة فى تاريخ مدينته وبلده.

كان ميدان الاستقلال بنيودلهى، أول ميدان عظيم الاتساع أراه خارج مصر. كان يوما مشهودا حين دعيت لحضور الاحتفال بعيد استقلال الهند فكل ما فى العرض العسكرى ينشر البهجة ويفرض بشكل خاص الاعجاب بروعة الهندسة المغولية الإسلامية فى اندماجها بالعمارة الهندوسية مكسوة بلون حمرة الشفق. رأيت فى هذا الميدان كيف يمكن لتناقض الشرق والغرب ان يكون بديعا، حيث موسيقى القرب يعزفها عازفون هنود فى زى مغولى يمتطون أفيالا هى الأخرى مرتدية زيا مزركشا بألوان مبهرة.

وفى بكين، عاصمة الصين، وجدت الميدان الرئيسى أوسع من ميدان الاستقلال فى نيودلهى، ولكن يعكس تناسق الحاضر بالماضى، الحاضر شيوعى والماضى امبراطورى. الحاضر فى الميدان.. آلاف مؤلفة من راكبى الدراجات فى الزى الأزرق، رمز العمل والعرق، يمرون أمام قصر الصين، أو بمعنى أدق مجموعة البيوت الصغيرة الممتدة بسقوفها الشهيرة، وهى التى كان يسكنها قبل مائة عام البلاط الامبراطورى.

هناك أيضا فى الميدان لم تفتنى مشاهدة عرض اشترك فيه مليون أو أكثر من أفراد الجيش والبحرية ومن العمال والفلاحين وكبار السن والشباب والأطفال.. وفى آخر العرض يسير عامة الشعب. فى هذا الميدان، ميدان تينامين، نشبت ثورة الشباب فى عام 2002، وفيه التقطت الصورة الشهيرة لشاب يقف أمام دبابة ويمنعها من التقدم، ومن هذه الصورة التقط شاب مصرى الفكرة ونفذها فى ميدان التحرير بالقاهرة، ولكن أمام سيارة شرطة مجهزة بمدافع مياه لتفريق المتظاهرين.

●●●●


ميادين إيطاليا نوع مختلف من الميادين، الميادين هناك كالتحف معروضة للمشاهدة. إنت فى الميادين الإيطالية لا تمشى أو تتمشى ولكن تجلس وتنظر، وتطيل النظر قبل أن تنقله إلى لوحة أخرى. ميادين للفرجة والمتعة وليست للسياسة أو تنفيث الغضب. تكاد تنكر بعض روايات التاريخ وأنت جالس تتأملها.. لم أصدق أن بنيتو موسولينى وقف يخطب من هذا الشباك فى الطابق الثانى من بناء يطل على ميدان صغير يبعد أمتارا عن ميدان فينيسيا حيث يقوم صرح الجندى آلمجهول ويبعد أمتارا أخرى عن ميدان إسبانيا. وهو فى رأيى أحد أجمل ميادين الكوكب الذى نعيش فيه، وقفت أسأل كيف خرجت كلمات غوغائية من فم زعيم يقف ليخطب فى الناس فى مكان بهذا الجمال والروعة، وكيف وقف يحيى جيوش إيطاليا المتوجهة إلى إثيوبيا والصومال وليبيا لترسم خريطة لامبراطورية جديدة لروما.

●●●●


وللمدن ذات الطابع الإسبانى شهرة فائقة لبساطتها ووظائفها، أغلبها مستطيل ولا تخلو منها مدينة فى إسبانيا وأمريكا اللاتينية. فكرتها بسيطة، لا تخرج عن أن الميدان مطلوب ليكون ساحة تعزف فيها الموسيقى للترفيه عن أهل المدينة الناعسة، وفى أوسطه نافورة تعطى الانطباع بأنها تخفف من حرارة الجو، وفى البداية أو فى المدن الأصغر كان يتوسط الميدان بئر يحصل منها السكان على مياه الشرب أو صرح تذكارى لبطل أو شهيد من القرية. وفى الأرجنتين مثلا أقاموا فى وسط ميدان مايو (بلازا دى مايو) نصب على شكل مسلة والسبب أن حكام الأرجنتين، على خلاف غيرهم من حكام أمريكا اللاتينية كانوا يتعالون على التقاليد الإسبانية ويحاولون تقليد ميادين أوروبية وأمريكية، وألهمهم ميدان الكونكورد فى باريس وساحة المول فى واشنطن والدومو فى كاتانيا وميدان الخيول فى استانبول فأقاموا ما يشبه المسلة فى أشهر ميادين العاصمة بيونس أيرس.

يعتقد مؤرخو هندسة المدن أن الميادين وجدت فى الأصل لأداء وظائف معينة مثل التجارة، وكان الناس يختارون لها موقعا على مفترق طرق التجارة ويبنون حولها المساكن والدكاكين ومنها تتوسع المدينة فى كل الاتجاهات. وبسبب موقعها لعبت دور منارات الثقافة والفكر، إذ كانت عادة السفراء والأدباء والمفكرين الالتفاف حول كبار التجار وقادة القوافل. هكذا انتعشت الثقافة فى عصر الفينيقيين، الذين أقاموا معظم مدنهم حول ميادين تلتقى عندها طرق التجارة وكثير منها لم يكن يبتعد عن البحر كثيرا وه ما تكشف عنه آثار الميادين فى مدن بيروت وصور فى لبنان وقرطاج فى تونس.

وفى عهود الاغريق والرومان، كان الحكام والشعوب يودعون الجيوش عند خروجها للقتال فى الميدان الفسيح ويستقبلونها بالاحتفالات وهالات النصر عند عودتهم منتصرين. وفى عهود وثقافات أخرى استخدم الناس الميادين للعبادة وأحاطوها بهالات التقديس وكدسوها بالأصنام.. أوجعلوها ساحات للسباقات الرياضية ومصارعة الثيران، وكالحال فى بعض العواصم العربية، استخدمت ميادين كثيرة فى فرنسا وإنجلترا لترهيب الشعوب فأقاموا فيها المشانق والمقاصل أو خصصوا فيها أياما لجلد المواطنين ورجمهم وتعذيبهم.

●●●●


ميادين كثيرة صاغت ذكريات وسجلت صفحات فى التاريخ، سيذكر التاريخ ميدان تقسيم فى استانبول، وميدان الفاتيكان، والميدان الأحمر فى موسكو الذى بدأ كسوق تجارية يؤمه الفلاحون بمنتجاتهم، والميدان الرئيس فى سان بطرسبورج الذى أقامه القياصرة نقلا عن ميادين باريس وانتهى الحال به ميدانا كالميدان الأحمر للثوار الشيوعيين. يروى عن جوزيف سميث نبى طائفة المورمون الأمريكية، الذى يعود إليه الفضل فى تخطيط نشر فكرة الاكثار من اقامة الميادين فى الولايات المتحدة أنه قال أن الميدان فكرة تعود إلى النبى موسى الذى أراد أن يجمع قبائل بنى إسرائيل فى مكان واحد ليتعارفوا!

●●●●


فاجأنى خبر يفيد بأن مسئولين فى مملكة البحرين يفكرون فى إزالة دوار اللؤلؤة مسرح الثورة ضد النظام وبدأوا فعلا بهدم العمود الذى كان يحمل اللؤلؤة وجارٍ الآن تغيير معالم الميدان وغيره من الميادين. تذكرت أيضا أننى رأيت خلال الأيام الأولى للثورة المصرية رسما منشورا فى إحدى الصحف يظهر فيه ميدان التحرير فى المستقبل وقد اختفت منه المساحات الخضراء وحلت به الأبنية بحيث لا يتسع لمتظاهرين. ما أتعسه مستقبل تخلو فيه مدن العرب من الميادين.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي