نضّارتى الأولى - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 13 ديسمبر 2024 5:45 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نضّارتى الأولى

نشر فى : الخميس 23 مارس 2017 - 9:35 م | آخر تحديث : الخميس 23 مارس 2017 - 9:35 م
ياله من سحر لا يقاومه الأطفال يكمن فى هذه العدسات وهذا الشنبر الذى يستقر على وجه الأب أو الأم طول الوقت أو عند القراءة. هيبة ما بعدها هيبة تضفيها نضارة النظر على صاحبها فإذا بها تتحول إلى شيء من أشياء كثيرة يهفو إليها الصغار تشبهًا بمن هم أكبر منهم سنا، مثلها فى ذلك مثل الحذاء ذى الكعب العالى الذى تتخايل به الطفلة فتتعثر فى خطواتها لكنها لا تتوقف، أو مثل السيجارة التى يدخنها الصبى خلسة لأنها فى حسبانه الباب الملكى للعبور إلى الرجولة، أو مثل ساعة اليد الحقيقية التى تضبط مواعيد الكبار لا تلك الساعة اللعبة التى يتوسطها وجه ميكى ماوس.
مولعون نحن فى طفولتنا بتقليد الأكبر منا حتى إذا ما كبرنا فعلا أخذنا الحنين إلى طفولتنا فإذا بِنَا نحجز مكانا على الأرجوحة ونجاهد حتى لا تلامس الأرض أقدامُنا، نتلذذ بأكل غزل البنات ولا نحفل بإزالة حُمرته من فوق شفاهنا، نجرب أنفسنا فى الجرى وندارى عن الغُرباء لهاثنا، ونحكى قصص المغامرات لأطفالنا فتمتعنا مثلهم وأكثر.
***
راودتنى فكرة ارتداء نضارة نظر وأنا فى سن السابعة حتى إذا بلغتُ عامى الثامن كانت هذه الفكرة قد تمكنت منى تماما. لم يكن أحد من أفراد أسرتى يرتدى نضارة لكن جدى كان يرتديها وأيضا جدتى، وكان بعض المدرسين فى مدرستى يرتدونها، والأرجح أن انجذابى للنضارة كان فى جزء منه تعبيرا عن تعلقى بهم شخصيا. لم تكن نضارات الستينيات مزركشة كما هى فى أيامنا هذه، ولا كنّا نعرف الشنابر الرفيعة أوالعدسات الفريملس، لكن ذلك لم يؤثر فى شيء على إعجابنا بها، يكون شكل النضارة ما يكون المهم أنها تضيف بعض السنين لصاحبها. فى تلك الأيام كان نادرا ما نصادف طفلا يرتدى نضارة بعكس الحال حاليا، وربما يعود الفارق بين زماننا وهذا الزمان إلى أننا لم نعرف الفضائيات ولا أجهزة الكمبيوتر والآيباد والمحمول التى يحملق فيها أبناؤنا لساعات طويلة، وهكذا احتكر الكبار أو كادوا ارتداء نضارات النظر، وعندما قررتُ أن أنتزع لنفسى نضارة كنت قد قررتُ فى الوقت نفسه أن أنافس الكبار فى ملعبهم.
***
بينما أنا أحلُ واجباتى المدرسية كالمعتاد وعلى مقربة منى تجلس أمى رحتُ أفرك عينيّ وأوسعُ حدقتيهما دلالة على أنى لا أستطيع أن أقرأ جيدا لكنها لم تنتبه. هنا كان عليّ أن أنتقل من التلميح إلى التصريح فأخبرتُ أمى أن السطور تتداخل فيما بينها ففزِعَت وكان أول ما خطر ببالها أنى أهملُ فى طعامى كالعادة فنفيتُ، سألت وسألت عن الأعراض والبدايات وأنا أجيبُ متلعثمة وأوشك أن أعترف بأن الأمر كله لا يعدو كونه مزحة، لكن شيطانى الصغير راح يهون مهمتى ويمنينى فى الأخير بنيل بغيتى. إذن نذهب فى الغد إلى طبيب العيون قالت أمى ووقع الأمر عليّ وقع الصاعقة، لم أكن أحسبُ لزيارة الطبيب حسابا فقد كنت أظن الأمر أهون من ذلك، وأنه يكفى أن تشعر أمى بحاجتى لنضارة فتشترى لى واحدة لكن فحوصا واختبارات وربما حقنة أيضا فإن هذا ما لم أتوقعه أبدا.. فهل ترانى أتراجع مخافة أن ينكشف أمرى؟ خفتُ لكن لم أتراجع.
عندما تبين لى أن كشف الطبيب لا يتجاوز معرفة اتجاهات الدوائر المثبتة فوق اللوحة الكرتونية تنفستُ الصعداء وأبدعتُ فما أشار الطبيب بعصاه إلى اتجاه إحدى الدوائر إلا وأخطأتُ فيه متعمدة، اليمين يسار والأسفل أعلى والعكس صحيح. انتهى الأمر عند هذا الحد، بدت علامات الأسف على وجه الطبيب ولفظ بالجملة التى فعلتُ كل ما فعلت من أجل سماعها: بنتك محتاجة نضارة يا مدام. وفِى خلال أسبوع واحد صارت عندى نضارة بنية اللون سميكة الزجاج لها جراب أسود، ليست بى حاجة إلى جراب هكذا قلتُ لنفسى فما جاهدتُ لاقتناص نضارة حتى أودعها جرابا، هى فوق أنفى وسوف تبقى كذلك، أو هذا ما كنت أظنُ.
***
فى اللحظة التى ثبتتُ فيها النضارة على وجهى أدركتُ المأزق الذى أوقعتُ نفسى فيه، فما كنت أدعيه من تداخل السطور واهتزازها صار حقيقة واقعة وما عدتُ أرى بالفعل شيئا فما العمل؟ نعم دخلتُ الفصل منتفخة الأوداج لأنى انضممتُ إلى الزميلة الوحيدة التى كانت ترتدى نضارة لكن صداعا شديدا انتابنى وما عدت قادرة أبدا على متابعة مُدَرستى ولا تمييز ما تكتبه على السبورة فهل أخطأتُ؟ هل جحدتُ نعمة البصر التى أنعم الله بها عليّ؟ هل كانت النضارة تستحق كل هذه المعاناة؟ مؤكد أن أياما من الاضطراب الشديد قد مضت قبل أن أنهى هذه القصة وأجلس أمام أمى على كرسى الاعتراف. اشتكت مدرساتى من أننى لا أرتدى نضّارتى وأن هذا قد يضعف نظرى أكثر، وهكذا قُفِل باب المناورة فأفشيتُ سرى. كان الذنب كبيرا لكن حلم أمى كان أكبر، المهم ليس القلق الذى تسببت لها فيه، ولا قيمة الڤيزيتا التى ذهبت سدى، ولا الوقت الذى أهدرته ونحن فى النصف الثانى من العام، المهم أنى كذبتُ وهذا ما لا يجب أن أكررهُ أبدا.
***
فى أول مرة جلستُ فيها أمام طبيب العيون وقد تخطيتُ سن الأربعين ليقول لى إنى أحتاج نضارة للمسافات القريبة تذكرتُ قصة نضارتى الأولى وابتسمتُ، ثم لم تعد تفارقنى هذه القصة فى كل المرات التى ترددتُ فيها على الطبيب لأغير العدسات كلما تراجعتْ قوة الإبصار درجة تلو الدرجة. وكعادة الكبار فى الحنين إلى صورتهم الأولى راودنى الأمل فى التحرر من النضارة والنظر إلى الناس والأشياء والأوراق مباشرة لا من وراء زجاج، لكن هذا كان غير ممكن ــ هكذا قالوا لي ــ فما فسد بالعمر لا يصلح بالليزر. غريب أمر بنى آدم يشتاق إلى المفقود ويرنو إلى ما ينقص وإن يكن ما فى حوزته هو عين التمام.

 

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات