فى بقعة نائية من صعيد مصر، وفى قلب صحراء موحشة أطلق عليها القدماء اسم «الهور» نسبة إلى الإله هور أو حورس تماما مثل مدينة «دمنهور»، وسماها المعاصرون صحراء «الهِو» أقيم هذا المشروع الكبير عام 1969 ليؤسس مدينة صناعية ــ سكنية متكاملة المرافق والخدمات، فتهوى إليه أفئدة من الناس لبناء مجتمع متطور تحكمه الضوابط والقيم. إنه مجمع الألومنيوم بمركز نجع حمادى بمحافظة قنا على مسافة 80 كم شمال غرب الأقصر، ذلك الذى أقيم تاريخيا لاستغلال الطاقة الكهرومائية الرخيصة للسد العالى المولدة من مساقطه المائية، ثم أصبح يستهلك اليوم ما يقرب من ثلث إنتاج السد العالى من الكهرباء.
«مجمع الألومنيوم» المقام على نحو خمسة آلاف فدان من الأرض، يستحق هذا الاسم لأنه يضم صناعيا عدة مصانع وخلايا ومسابك وورش.. ويضم سكنيا مدنا سكنية متكاملة لخدمة العاملين وذويهم عبر الأجيال المتعاقبة، ويضم زراعيا المساحات الخضراء والنخيل والمزارع الحيوانية.. كما يضم لخدمة المجتمع المدارس والمعاهد والحضانات ودور العبادة ومراكز لخدمة الأطفال المصابين بالتوحد وبمتلازمة «داون» وغيرهم من ذوى الاحتياجات والقدرات الخاصة.. فضلا عن النادى الرياضى الكبير وما يضمه من أنشطة رياضية وثقافية، ساهمت فى بناء شخصية أبناء نجع حمادى الذين انطلقوا خارج أسوار المجمع، ليتقلدوا المناصب فى مختلف أرجاء مصر، حاملين فى قلوبهم «مصر للألومنيوم» التى أنبتت مدينتهم الكبرى بواد غير ذى زرع يسكنه العقارب والأفاعى وقطاع الطرق.
***
حينما ندعو اليوم إلى إقامة منتجعات ومدن إنتاجية ــ سكنية متكاملة، علينا أن نتعرف أولا على أبرز تجاربنا الناجحة فى هذا المجال. زيارة واحدة إلى مجمع الألومنيوم لن تعود منها بالأفكار ذاتها عن المدن الصناعية المزمع إنشاؤها شرق البلاد، بل ربما لن تعود منها كما سافرت، نظرا للأثر العميق الذى حتما سوف تتركه تلك الزيارة فى نفسك.
أهالى مصر للألومنيوم يشعرون بانتماء عميق للصناعة والإنتاج، يتابعون أسعار المعدن فى البورصة العالمية كأخلص ما تكون المتابعة، يراقبون القرارات الحكومية المتعلقة بأسعار الكهرباء حرصا على منتجهم الأهم، لا خوفا على فاتورة الكهرباء التى سوف يدفعونها لاستهلاك منازلهم! كأنما تعلقت مصائرهم بخلايا إنتاج الألومنيوم وخطوط الإنتاج من المدرفلات والسبائك والقوالب والسلندرات والبلاطات والسلك.. يتطلعون إلى المنافسة الإقليمية والعالمية بشغف كبير يفوق كثيرا شغف أهل الحضر بالمنافسات الرياضية ومسابقات الغناء والمواهب. إذا قابلت طفلا يجول فى شوارع المجمع فاسأله عن المشروع الجديد، تلمع عيناه ثم يخبرك بأنه هو الأمل لاستمرار هذا الكيان العملاق فى النمو والمنافسة.
وإذ تعمل شركة مصر للألومنيوم اليوم بكامل طاقتها الإنتاجية لتنتج نحو 320 ألف طن سنويا من معدن الألومنيوم الأولى، فإنها تتطلع إلى زيادة إنتاجها بواقع 250 ألف طن سنويا، ليبلغ الإنتاج 570 ألف طن/سنة وهو بعد أقل مما تنتجه المملكة العربية السعودية بنحو مائتى ألف طن وهى التى لم تبدأ إنتاج الألومنيوم إلا فى نهاية عام 2012، بينما تنتج الإمارات أكثر من ثلاثة أضعاف الإنتاج السعودى.
تقوم شركة مصر للألومنيوم بتصدير نصف إنتاجها تقريبا من إجمالى المنتجات، وبنسب متفاوتة تزيد فيها نسبة صادرات بعض الأصناف تامة الصنع على 95% من الإنتاج، ومن المنتظر أن يخصص الجانب الأكبر من إنتاج مشروع زيادة الطاقة الإنتاجية نحو التصدير.
المشروع الجديد الذى يتكلف نحو 650 مليون دولار يقوم على تكنولوجيا جديدة موفرة للطاقة وصديقة للبيئة، ويحتاج لإقامته إلى إنشاء 184 خلية جديدة، وعنابر استخلاص ومسبك بوحداته المساعدة، ومصنع للقضبنة، فضلا عن العمرات والموحدات والمرافق وورش المشروعات والمعامل المركزية.
من المتوقع أن ينخفض استهلاك الكهرباء بالخلايا الجديدة من 14 ألف كيلو وات/ساعة/طن إلى نحو 12,500 ك.و.س/طن. كذلك من المتوقع زيادة تيار الخلية وكفاءة التيار ومضاعفة إنتاجية الخلية يوميا مع خفض استهلاك الكربون من 423 كجم/طن إلى 400 كجم/طن بما يعنيه ذلك من تحسن الأثر البيئى.
الخلايا الجديدة تتمتع بالكفاءة فى استغلال المساحة أيضا وهى تبنى جنبا إلى جنب side by side عوضا عن الخلايا القديمة التى أنشئت بنمط end to end بما يوفر تقريبا نصف مساحة العنابر المخصصة لهذا الغرض.
***
يعمل فى مجمع الألومنيوم أكثر من ستة آلاف وخمسمائة عامل يمثلون نحو سُبع إجمالى عدد سكان مركز نجع حمادى. فإن أحصيت أسرهم أدركت أنهم جميعا يمثلون الكتلة السكنية للمركز كله.
داخل ورش الإنتاج ربما أسعدك الحظ بأن تلتقى بأحد المخترعين! نعم أحد المخترعين الذين طوروا تكنولوجيا جديدة لتحسين إنتاجية الماكينات والمعدات المستوردة، والتى تم اعتماد تطويرها لاحقا وبصفة رسمية من قبل الشركة الفرنسية أو الألمانية صاحبة الماكينة أو المعدة. الغرض من التطوير هو توفير استخدام الخامات والمدخلات المختلفة من ألومينا وكهرباء وبلوكات أنود.. وتحسين كفاءة وعمر قطع الغيار، بل أحيانا تحسين مواصفات المنتج النهائى.
المرونة الإنتاجية التى يتمتع بها هذا المجمع يمكن أن تستقى منها الدروس هى الأخرى، فما إن تمر أسعار الألومنيوم فى البورصات العالمية بدورة من التراجع، حتى يتهيأ العاملون فى مختلف المصانع لعمل العمرات الجسيمة وتطوير الخلايا. كما يتم تخفيض حجم المبيعات، وتراكم المخزون بمعدلات أكبر نسبيا استعدادا لموجة ارتفاع الأسعار التى لابد لها من عودة. لا يمتلك صناع الألومنيوم فى مختلف دول العالم مرونة كبيرة فى التحكم فى تكاليف الإنتاج، إلا إذا تعاونت معهم الدولة فى ذلك. فالمكون الأهم لإنتاج الألومنيوم هو الكهرباء التى لابد أن ترتبط بمعادلة مع أسعار المنتجات فى البورصات العالمية أو تقدم بأسعار وفئات تفضيلية لمنتجى الألومنيوم والنحاس والصلب.. كما ذكرت فى مقال سابق بالشروق. الكهرباء تدخل فى عملية الإنتاج وليست مصدرا للطاقة فى صناعة الألومنيوم كما تصور أحد وزراء عهد الإخوان الذى صرح من قبل بأن مصر للألومنيوم سوف تعمل بالغاز الطبيعى!
***
المسئولية الاجتماعية التى يرعاها مجمع الألومنيوم تقدم نموذجا رائعا فى التكافل وتقدير الجوانب الإنسانية. ففى كل مرة أقوم بزيارة خطوط الإنتاج الصناعية أخصص ختام الزيارة لحضانة ومركز أجيال لذوى القدرات والاحتياجات الخاصة.
ويقدم المركز خدمات متنوعة أبرزها تنمية إمكانيات ذوى الاحتياجات الخاصة بما يحقق لهم اكتساب خبرات معرفية ومهارات يدوية وفنية واجتماعية قابلة للتقييم المستمر، مع العمل على تخريج عدد من الأطفال كل عام للالتحاق بحضانات ومدارس الأطفال من غير ذوى القدرات الخاصة، بما يحقق لهم الاندماج ويساعد على سرعة تجاوزهم للصعوبات فى الكلام والحركة والتواصل. وكذلك يقدم المركز خدمات الدورات التدريبية ويعقد الورش والمؤتمرات التى تساعد على تأهيل الأسرة للتعامل مع الأبناء الذين يعانون صعوبات معينة.
فى مجمع الألومنيوم يمكنك أن ترى مصر مصغرة منتجة ومتقدمة ورائدة ومكتفية ذاتيا. يمكنك أن ترى الأخلاق النبيلة والقيم الحاكمة لسلوكيات الشباب والكبار ماثلة فى الشوارع والطرقات، لا يجرؤ على تجاوزها أى عنصر من عناصر المجتمع وإلا كان جزاؤه الإقصاء الفورى.
هذا المقال دعوة لمتخذى القرار وصانعيه الذين عكفوا خلال الأعوام الماضية على تطوير نماذج نظرية لمدن متكاملة منتجة، تعالوا لزيارة مصر للألومنيوم بنجع حمادى، ففيه مدينة صناعية زراعية سكنية متكاملة أقيمت فى ظروف صعبة، وطورت قدراتها ذاتيا، ويتطلع أهلها اليوم إلى مشاركة كل المصريين ثمار خبراتهم الاستثنائية وجهودهم على أرض الواقع.