فى اليوم التاسع بعد بدء الحرب الإسرائيلية على إيران، دخلت الولايات المتحدة فى الحرب عبر «الضربات الجراحية» أو الحرب «المحدودة»، كما يجرى تعريفها من حيث دقة الأهداف عبر الهجوم الجوى على المنشآت النووية الرئيسية الثلاث (فوردو وهى الأهم، نطنز، وأصفهان). وقد أعلنت واشنطن أنها حققت هدفها من هذا الهجوم إذ إن هذه المنشآت «لم تعد قائمة»، وبالتالى لم تعد فاعلة. وجاء رد إيرانى بأنها أُخليت مسبقا من اليورانيوم المخصب الذى كان هدف الهجوم الأمريكى.
تغير «قواعد اللعبة» هو الأهم من حيث تطورات هذه الحرب المحصورة فى المكان (إيران وإسرائيل) حتى الآن، والمفتوحة فى الزمان. وللتذكير فإن الهجوم الإسرائيلى على إيران قد انطلق بعد أقل من يومين من مبادرة دول عربية، بناء على طلب إيران، مع الولايات المتحدة للعودة إلى المفاوضات. وقد حددت على أساسها الجولة السادسة، يوم الأحد، فى مسقط وأسقطها الهجوم الإسرائيلى فجر الجمعة. وبالطبع لا يعنى ذلك أن واشنطن لم تكن فى صورة القرار الإسرائيلى، وهى بالطبع لم تعمل على وقف تنفيذه إذ تبقى واشنطن قادرة فيما لو رغبت فى الضغط على إسرائيل لوقف الحرب على إيران، ولو لم يكن فى اليوم التى انطلقت فيه الأمور للحرب. الهدف الأمريكى (وتحديدا الإدارة الحالية) الإسرائيلى المشترك، ولو قد تختلف السبل فى الوصول إليه، هو منع إيران من امتلاك أى قدرات نووية ولو مدنية وحتى بالحد الأدنى الممكن لمستوى التخصيب. هذا الأمر للتذكير هو الذى دفع إدارة ترامب الثانية فى ٢٠١٨ فى الانسحاب من الاتفاق النووى لعام ٢٠١٥ (ما عرف بخطة العمل الشاملة المشتركة، اتفاق ٥ زائد ١) الذى وقعته الإدارة السابقة. لكن تدرك واشنطن ومعها إسرائيل أنه من غير الممكن بالفعل نزع العامل النووى كليًا، وهو الذى يحظى بدعم وطنى واسع أيا كانت المواقف من النظام الحالى، وبالقوة من إيران بعد التقدم الذى حققته عبر سنوات عديدة. الحديث عن ما يعرف «بالخيار الليبى» الذى أشرنا إليه فى مقالة سابقة، والذى للتذكير تم عام ٢٠٠٣ عندما تخلت ليبيا عبر التفاوض وسياسة العصا والجزرة، عن كل ما تملكه من بنى وتجهيزات لبناء قدرة نووية، لا يمكن تنفيذه فى الحالة الإيرانية للاختلاف الكلى بين الحالتين الليبية والإيرانية من حيث القدرات أولًا والدور الإقليمى ثانيًا. واشنطن توجه الرسائل لطهران بأنها لا تهدف إلى إسقاط النظام، بل التغيير فى سلوكياته وسياساته فى المنطقة، الأمر الذى يفترض أن يفتح الباب للتفاوض مجددا. الهجوم الجوى الأمريكى على إيران يندرج فى استراتيجية واشنطن التى تقوم على التفاوض على الأرض (عبر الأعمال العسكرية) لتقوية القدرة فى التفاوض حول الطاولة، الأمر الذى ترفضه إيران وتصر على وقف القتال كليا قبل العودة إلى المفاوضات. الخوف من استمرار الحرب المفتوحة فى الزمان فى ظل هذه المعادلة أن يحدث «انزلاق» فى المواجهة الأمريكية الإيرانية ناتج عن أخطاء فى الحساب وقائم على توجيه رسائل بالنار عبر توجيه ضربات إيرانية ولو محددة ومحدودة لأهداف أمريكية عسكرية فى المنطقة. سيؤدى ذلك إلى حرب مفتوحة فى الجغرافية ولو بشكل تدرجى وفى الأهداف مما يزيد من التعقيدات أمام وقف الحرب والعودة إلى طاولة المفاوضات. الاجتماع الأوروبى الإيرانى فى جنيف، يوم الجمعة الماضية، الذى قدم على الطاولة الموقف الأمريكى بشكل أكثر مرونة، أو بلفة دبلوماسية أوروبية كما وصفه أحدهم، لم يأتِ بالنتائج المطلوبة.
حصل ذلك رغم أن إيران لا تخفى مصلحتها فى استمرار وتعزيز الحوار مع القوى الأوروبية الرئيسية الثلاث فى الحوار ومعهم أيضًا الممثل الأعلى للشئون الخارجية والسياسة الأمنية للاتحاد الأوروبى، وذلك لأهداف تتخطى المشكلة النووية. يدفع إلى ذلك أيضًا أن الحليف الإسرائيلى سيفعل ما باستطاعته لمنع وقف إطلاق النار والعودة إلى المفاوضات، التى رغم الخلافات الأساسية بين طرفيها الأمريكى والإسرائيلى لا تلاقى ارتياحًا إسرائيليًا.
كل يوم تأخير فى العودة إلى طاولة المفاوضات، بعد وقف إطلاق كليا بالطبع، أيا كانت الصيغة والأطراف التى قد تدعى للمشاركة فيها بغية تسهيل عملية التفاوض، سيؤدى إلى مزيد من التعقيدات والمخاطر التى تطال فى تداعياتها المنطقة ولو بدرجات وأشكال مختلفة. وحدها واشنطن قادرة أن تفرض قبول وقف إطلاق النار على إسرائيل، فهل ستفعل ذلك ومتى؟ الإجابة عن هذين السؤالين تحدد طبيعة العمل بدرجة كبيرة ومنحى التطورات القادمة فى الإقليم.