عندما تفجّرت الحراكات الجماهيرية فى بعض بلاد العرب منذ تسع سنوات، ثم انطفئ بعضها واختطف البعض الآخر، انبرت أقلام الغمز واللّمز والشماتة بوصف كل ما حدث بنعوت هجائية من مثل خريف أو شتاء العرب أو مؤامرة هذه الجهة الخارجية أو تلك.
آنذاك نبّه البعض منا إلى أن التاريخ يعلمنا بأن المجتمعات، ككثير من المجتمعات العربية، المليئة بالفساد والظلم والاستبداد، لا يمكن إلا أن تنتهى إلى انفجارات جماهيرية مماثلة. وقلنا بأن ممارسى الفساد ونهب الثروات لن يكون لديهم الوعى السياسى الكافى ولا الحساسية الضميرية الإنسانية ليستوعبوا المعانى العميقة لما حدث فى أجزاء من الوطن العربى، وليمارسوا شجاعة المساءلة والإصلاح قبل أن يواجهوا انفجارات جماهيرية مماثلة فى مجتمعات عربية أخرى.
ولقد تحققت تلك النّبوءة بعد حين قصير، فانفجرت الأوضاع فى الجزائر والسودان، لتنتقل قبل بضعة أيام نفس الظاهرة إلى لبنان. ولن يكون الحراك فى لبنان هو الأخير، طالما أن الكثير من قوى الحكم لم تصل إلى القناعة بأن أساس السيادة فى الدول الحديثة أصبح هو الشعب، وليس هو الفرد أو القبيلة أو الحزب أو الجيش أو الطائفة أو دعم ورضى الخارج. وأساس الحكم هو الشرعية التعاقدية المتمثّلة فى دستور ديمقراطى عادل مفصّل للأسس والقيم التى تقوم عليها الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومحترم ومطبق بصورة صادقة من قبل الجميع وعلى الجميع، كمرجعية لا تعلو عليها أية مرجعية أخرى.
فى لبنان، ومنذ استقلاله، تميزت الحياة السياسية بغياب شبه كامل لسيادة الشعب وبهيمنة شبه كاملة لنظام عائلى إقطاعى طائفى، سواء فى اكتساح الانتخابات، وبالتالى الاستيلاء على سلطة البرلمان، أو سواء فى أجهزة الحكم، حيث قام على المحاصصة بين الهويات الفرعية دون رقيب أو مساءلة.
ولقد رسخ الدستور والقوانين تلك الظاهرة التى قادت إلى الفساد والنهب فى الحياة الاقتصادية والمالية وإلى ضعف الخدمات الاجتماعية للمواطنين.
لكن أهم ما قادت إليه تلك الممارسات هو إقناع المواطن اللبنانى بقبول المساهمة فى الإبقاء على ذلك النظام العائلى الإقطاعى الطائفى، وفى الاعتماد عليه، تصويتا فى الانتخابات، وتفتيشا عن وظيفة، وسعيا لترقية فى عمل.
ما يحيِّر الإنسان هو صمود ذلك النظام الطائفى المشخصن، نظام ما قبل قيام الدولة الحديثة، عبر ثمانية عقود، فى بلد طالما تفاخر أهله بانفتاحهم على الأنوار الأوروبية، وبانتشار المدارس والجامعات العصرية، وبزخم فكرى مبهر.
لكن لصبر الشعوب حدود. ها أن الضَّنك المعيشى والفساد الاقتصادى والمالى، ومشاعر الغضب من وجود مظالم كثيرة، وشعور الطبقة المستنيرة بالغربة والضَّياع، فجَّر اليوم فى لبنان ثورتين: ثورة اجتماعية بمطالب معيشية وخدمية، وثورة ديمقراطية بمطالب سياسية ضدّ نظام الحكم وقادته.
لقد كان باستطاعة قوى السياسة أن تعى معانى انفجارات الربيع العربى، وإمكانيات عدوى انتقالها، فتبادر فى الحال إلى اتخاذ خطوات وقائية تمنع الوصول إلى المشهد الذى نراه أمامنا، لكنها لم تفعل ذلك.
لكن ذلك يقودنا إلى طرح السؤال التالى: إذ كانت قوى السياسة فى لبنان لم تتعلَّم من دروس الربيع العربى الذى شمل العديد من أقطار الوطن العربى، فماذا عن الحراك الجماهيرى الذى يجوب شوارع مدن لبنان حاليا؟ هل يا ترى سيتعلَّم قادته من دروس وعبر نجاحات وفشل حراكات الربيع العربى عبر العشر سنوات الماضية؟
هل سيعون بأن تاريخ الثورات ملىء بالثورات التفاوضية من جهة وبالثورات العبثية من جهة أخرى؟ هل ستكون لديهم قيادة تمثِّل غالبية الجموع المحتشدة، كجبهة أو كتلة متناغمة ومتفاهمة على أهداف مشتركة؟ ثمَّ ماذا ستفعل تلك القيادة فى حالة الفشل، وماذا ستفعل، وهذا هو الأهم، فى حالة النجاح؟
لنتذكر أن المصير البائس لبعض حراكات الربيع العربى: كان سببه غياب مثل تلك القيادة، فى شكل جبهة أو كتلة متفاهمة، مما أدَّى إلى تضحيات هائلة دون نتائج ملموسة.
من حقّ لبنان الجميل المتدفق دوما بحيوية سياسية مبهرة أن تملك جهتاه المتقابلتان، قوى السياسية والسلطة من جهة وقوى الحشود الجماهيرية الصاخبة من جهة أخرى، الوعى التاريخى المطلوب: الوعى بأن ما يجرى فى لبنان هو جزء وجودى ممًّا جرى ويجرى فى الوطن العربى من حراكات جماهيرية كبرى، والوعى بأن نتائج وحلول ما يجرى فى لبنان ستكون لهما تأثيرات بالغة على ما ستأتى به الأيام فى طول وعرض وطن العرب.
التاريخ يعلِّمنا بأن الثورات الوجودية العميقة تبدأ، لكنها لا تنتهى حتى تتحقق أهدافها كاملة. صخب الملايين فى شوارع مدن الوطن العربى، عبر العشر سنوات الماضية، يؤكِّد صحة تلك الظاهرة التاريخية ويعرضها بين الحين والآخر فى مشاهد رائعة مبهرة.
مفكر عربى من البحرين