فى موقعى المعتاد على رصيف شارع رئيسى من شوارع روما الجميلة جلست أرشف من مشروبى المفضل وأدخن من السجائر نوعا عجل بعد سنين عديدة فى إصابتى بمكروه كثيرا ما يصيب مدمنى التدخين. لم يكن يخطر ببالى وأنا فى هذه السن المبكرة أنه يمكن أن أصاب بأى مكروه إلا بالحوادث لا قدر الله. غريبة هذه الأقدار، ففى هذه المدينة البديعة التى كلفت بالعمل فيها قدر لى أن أقرر إجراء عملية جراحية كبرى ثبت خلالها أن الأطباء أخطأوا التشخيص وقراءة صور الأشعة. فى النهاية، أى فى صباح اليوم التالى للجراحة التى ألقت نتائجها باللائمة على أطباء التشخيص فى كل من النمسا وإيطاليا اعترف الجراح الكبير بأن القديسة راعية هذا المشفى المسمى باسمها تدخلت فأنقذتنى قبل أن تمتد يد الجراح إلى معدتى تقطع منها أجزاء. قال وعيناه تفيضان بإيمان قوى وصادق، «القديسة تحبك. سبقتنى إلى موقع الألم والالتهاب وعندما وصلنا لم نجد أثرا لعلة أو أخرى».
تعودت قضاء ساعتين أو ثلاث مرتين كل أسبوع فى هذا المقهى الشهير (كافيه دى بارى ــ Café de Paris) أشاهد نوعا مختلفا من بنى البشر يمشون على الرصيف ذاته الذى انتصبت فيه الشماسى واصطفت الموائد والمقاعد. المتمشون رجالا ونساء يتفرجون على الجالسين نساء ورجالا. كلهم بدون استثناء يرتدون أفخر ما فى خزائنهم من ملابس وأحذية. منتهى الأناقة كما اشتهرت بها إيطاليا فى مدن الأزياء فى ذلك الحين. العروض تتوالى على امتداد السهرة. مشروبى المفضل يتكرر هو نفسه بدون استئذانى معظم المرات وبهزة رأس وابتسامة من النادل خفيف الظل مرات أخرى. حدث كثيرا أن يمر شخص أعرفه أو يعرفنى فيتوقف ليتحدث فيما يعنينى أو لا يعنينى ويواصل سيره إن لم يجد الترحيب أو بوادر استعداد لتوجيه دعوة استضافة. دعونى أعترف أننى فى الحقيقة لم أكن أرحب بهذا النوع من الزيارات. أولا كانت أثمان المشروبات والمأكولات فى هذا المقهى على وجه الخصوص مبالغا فيها وثانيا كانت مرتباتنا أنا وزملائى متواضعة. كان البعض منا يخصص فائضا للإنفاق على نزهة نهاية الأسبوع على شاطئ «اوستيا» القريب من روما ويتجاهل متعة الجلوس على مقاهى هذا الشارع العتيد، وكان البعض الآخر ينفق جانبا من الفائض على سهراته بهذا المقهى والجانب الآخر ينفقه على زيارة سريعة للشاطئ فى يوم من أيام نهاية الأسبوع.
هذا التقتير فى الإنفاق لم يحرمنى من إقامة صداقات مع بعض زبائن هذا الشارع الذى اشتهر فى العالم الخارجى باسمه الإيطالى (فيا فينيتو ــ Via Veneto). تعرفت من خلال هذا المقهى، بين من تعرفت، إلى شاب مصرى يحضر للدكتوراه فى فرع من فروع تاريخ القانون الرومانى وإلى سيدة فى عمر الشباب من اليمن تدرس باختيارها وعلى نفقتها الخاصة تطور الفنون الإيطالية وعلاقة هذه الفنون بأحوال إيطاليا الاجتماعية أى بتطور النظام الطبقى وأدوار الكنيسة. أحببت جدا هذه الصحبة ولم أبخل على استضافتهما عند زياراتهما منفردين أو مجتمعين إلى المقهى. بفضلهما، وأفضال غيرهما، اطلعت على الحقيقة الإيطالية شبه كاملة. إيطاليا التى عرفتها لا تختفى وراء مساحيق. تعرف أنها جميلة بطبيعتها بل خلابة. تسلب الألباب ولا تنتظر ثناء أو مديحا. تعرف أنها تستطيع أن تعيش فى بحبوحة لقرون عديدة أخرى فالرومان على امتداد الزمن تركوا آثارا وأبدعوا فنونا لا تفنى. يبقى الأمل معلقا بالبشر، سلالة هذا التاريخ الممتد، ليجددوا ويحفظوا ما تركه الأسلاف.
•••
سألتهما «تعيش إيطاليا هذه الأيام مرحلة أطلق عليها الغرب تعبير المعجزة الإيطالية نسبة إلى ما تحقق من إنجازات اقتصادية فى ظل ديموقراطية من نوع فريد، وفى ظل مذهب دينى متزمت. أريد منكما، أو من أحدكما على الأقل، شرحا تفصيليا لظاهرة «الحياة الحلوة» (لا دولشى فيتاــ La Dolce Vita) الظاهرة التى استحقت إعجاب وحسد شعوب ودول كثيرة. أعرف أنكما تقفان فى وسط هذه الظاهرة مستمتعين ومنبهرين. أعرف أيضا أنها انعكست عليكما فتقاربتما فى العلاقة حتى الاندماج عاطفيا.
«تسألانى من أين نبدأ. أجيب أن الفضول يطاردنى كلما وصلت إلى مسمعى قصة حب. هل أبالغ إذا قلت إن العواطف التى تتبادلانها تكشف عنها عيونكما. هذه النظرة لم تكن موجودة عندما قدمتكما قبل شهور قليلة الواحد إلى الأخرى. أستطيع أن أصف نظرتك يا صديقتى فى الأيام الأولى لك فى روما. نظرة حالم تحقق حلمه. رأيت فيها حب إنسانة لكل شىء هنا. رأيتك تعشقين الحجر، تفهمت هذا الحب. فالحجر هنا له تاريخ، تاريخ أقدم من تاريخ الوطن والدين والمواطن وملايين الإيطاليين. توقعت ذات يوم وأنت جالسة أمامى على نفس هذه المائدة تنظرين معى إلى المارات والمارين على الرصيف، توقعت أكثر من مرة أن تنهضى من مقعدك لتحضنى شابا أو آخر من بين المارين. كنت تسألين، أو فى الحقيقة تستشهدين برأيى، إن كان هذا الشاب أو ذاك يشبه الرجال فى التماثيل المنتشرة فى ميادين روما وبعض كنائسها. عرفتك فنانة تدرس الفن وتتفهم ما وراءه وتحفظ ما نسج حوله من حكايات. وعرفتك امرأة تلفت الأنظار بجمال تقاطيعها وسمرتها الأخاذة وشعرها الأسود المتوهج لمعانا يخطف الأفئدة، عرفتك امرأة كاملة لا تحفلين إلا بالرجل الكامل».
قاطعتنى بعد استئذان قائلة «صديقى الغالى، هل تصدقنى إن قلت لك إن لفحة من السحر زرعت الحب فى قلبى. عشت فى هذه المدينة فتاة فى حالة حب عام إن ينفع التعبير. لم أكن وحدى. وجدت الناس، كل الناس، فى حالة حب. المعلمة التى تعلمنى فلسفة الجمال انطلقت تعلمنا فلسفة الحب. اكتشفت، كما قالت، إن الحب والجمال وجهان لظاهرة واحدة تتجدد خلال القرون، هى الحياة الحلوة. مرحلة فى حياة أمة يزدهر فيها الحب ومعه تنتعش التجارة والصناعة وترتقى الفنون ويتطهر السياسيون ويحلو العيش وتصفو القلوب. قررت مديرة المعهد أن نقضى كل صباح ساعة نغنى. صدقنى وأنا أقول إننا اكتشفنا أن لنا أصواتا جميلة. أعدك بأن أسمعك صوتى يغنى لك من روائع الغناء الإيطالى الحديث والأوبرالى ما تختار. لن أخجل. صرت أغنى وأنا أشتغل بالبيت، وأنا أعد طعامى. وأنا أحتفى بأحبائى. اسأل الرجل الذى أحبه حبا جما، الرجل الجالس أمامك. اسأله كم غنينا معا. اسأله كيف اكتشف نفسه من جديد، هنا ومعى.
«صديقى، أجبتك. أسألك بدورى، ألم تشعر أنت نفسك بلفحة السحر هذه التى حدثتك عنها. أعرف أنها لفحتك. أعرف فأنا امرأة وأعرف لأنك شغوف باللحظة التى تعيشها. أعرف لأنك اخترتنى من بين ملايين النساء لأكون من المقربات».
•••
عدنا فالتقينا بعد عشرين عاما. جرى اللقاء فى عاصمة عربية. رفعت النادلة صحون العشاء. لم تمس الكئوس، تركتها فارغة ولم تهتم بإعادة ملئها ولم نهتم. سألتنى صديقتى «أما وقد رفعت الصحون وفرغت الكئوس أجد من حقى عليك أن أطلب منك النظر إلى وجهى، أسألك بعد أن لاحظت أنك لم تنظر إليه كما تعودت نظرتك الفاحصة الدافئة، أو كانت دافئة، أسألك الرأى فيه. تجاهلت السؤال وطال الصمت. أشحت بوجهى والعرق متصبب والألم جارح، بعد الصمت الطويل رحت أسأل عن أحوال عائلتها الممتدة، سألت عن جدودها وجداتها وعن الأعمام المقيمين فى القاهرة، لم أسأل عن حبيبها الذى كانت تغنى له ومعه فى روما فى زمن الحياة الحلوة...