نشرت صحيفة النهار اللبنانية مقالًا للكاتبة ندى حطيط، تناولت فيه أبرز مواقف المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، تجاه أهم القضايا الدولية، وذلك طبقًا لما جاء فى مذكراتها المعنونة «الحرية»، والتى صدرت نسختها الإنجليزية مؤخرًا.. نعرض من المقال ما يلى:
طوال ستة عشر عامًا، كانت أنجيلا ميركل (سبعون عامًا)، مستشارة ألمانيا السابقة، كما ملكة متوجة على عرش أوروبا، فقادت بلادها نحو مرافئ آمنة خلال العديد من الأزمات، ومكنتها بفضل شبكة علاقات نسجتها حول العالم من أن تغدو قاطرة اقتصاديات الاتحاد الأوروبى، وتركت، قبل أن تتقاعد وتغادر مسرح الحياة العامة فى 2021، بصمات ظاهرة على السياسة الدولية، كرقم صعب لا يمكن تجاهله عند إبرام القرارات الكبرى.
لذلك، فإن مذكراتها التى نشرتها للتو بعنوان (الحرية) هى قراءة لازمة لكل معنى بفهم المشهد السياسى الأوروبى والدولى خلال القرن الحادى والعشرين، وطرائق عمل السلطة خلف الكواليس، ودور الشخصيات العالمية - أمثال دونالد ترامب وفلاديمير بوتين - فى تشكيل عصرنا.
تغطى المذكرات، التى تعاونت ميركل فى كتابتها مع مستشارها السياسى المقرّب طوال عقود بيت باومان، فترة تمتد لسبعين عامًا (من 1954 إلى 2021) مقسمة بالتساوى بين مرحلة عيشها 35 عامًا فى جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة، حيث كانت طفولتها وشبابها ودراستها، وبعدها 35 عامًا أخرى فى جمهورية ألمانيا الموحدة، حيث أزهرت مهنتها السياسيّة المديدة، بداية من لحظة سقوط جدار برلين عام 1989، وتوليها منصب المستشارية (المعادل لرئاسة الوزراء) لأربع مرات.
• • •
كان لافتًا لقراء النسخة الإنجليزية من الكتاب موقف ميركل مما صار يعرف بالبريكست، أو قرار بريطانيا ترك عضويتها فى الاتحاد الأوروبى، إذ اعتبرت أن نتيجة الاستفتاء الشعبى الذى نظمه حزب المحافظين عام 2016 تسببت لها بالألم، واعتبرتها وصمة عار للاتحاد الأوروبى أن يفقد دولة مهمة مثل المملكة المتحدة، تسببت فى ضعف ملحوظ للفكرة الأوروبية رمزيًا وفعليًا.
تقول ميركل التى خصصت خمس صفحات من مذكراتها لتلك المرحلة إنها حاولت مساعدة رئيس الوزراء البريطانى (السير) ديفيد كاميرون حينها بوصفه كان من أنصار بقاء بلاده فى عضوية النادى الأوروبى، ولامت نفسها على تقصير محتمل فى دعمه، لكنها خلصت فى النهاية إلى أن الرجل تسبب بالكارثة لنفسه، ولا ينبغى له أن يلوم أحدا آخر عندما انتهى الشعب البريطانى - بعد حملة باهتة للبقاء - إلى التصويت بغالبية بسيطة لمصلحة الانسحاب من الاتحاد.
تشير المستشارة السابقة إلى أنّها أدركت منذ عام 2005 أن فكرة خروج المملكة المتحدة من عضوية الاتحاد الأوروبى كانت تعتمل فى ذهن النخبة البريطانية بعدما اقترح كاميرون ذاته أن يغادر أعضاء البرلمان الأوروبى من حزب المحافظين كتلة «تحالف الشعب الأوروبى»، وهو ما فعلوه لاحقًا بسبب تأييد التحالف معاهدة لشبونة عام 2009، والتى أدخلت تغييرات بنيوية فى نظام الاتحاد الأوروبى اعتبرها اليمينيون المناهضون غير ديمقراطية وتكرس هيمنة بروكسيل (مقر المفوضية الأوروبية) على الدول الأعضاء. وكتبت: «لذلك، منذ البداية، وضع كاميرون نفسه مبكرًا رهينة فى أيدى أولئك الذين كانوا مشككين فى قيمة الاتحاد الأوروبى، ولم يتمكن أبدًا من الهروب من هذا الارتهان».
تتهم ميركل حكومة زعيم حزب العمال، تونى بلير، بمنح البريطانيين والبريطانيات المناهضين لعضوية بلادهم فى الاتحاد الأوروبى الأدوات لبناء مزاج معاد لبروكسيل، لا سيما فى الأوساط المحافظة، وذلك عندما تجاهلت فرض قيود على انتقال العمال من أوروبا الشرقية بمجرد انضمام عشر دول، منها إلى الكتلة الأوروبية عام 2004، فى وقت وضعت فيه ألمانيا وفرنسا قيودًا متدرجة، ولم تفتح الأبواب أمامهم حرية الوصول إلى سوق العمل بشكل كامل قبل 2011، الأمر الذى جعل بريطانيا هدفا للكتلة الأكبر من أولئك العمال، وهو ما تم تصويره من قبل الإعلام اليمينى البريطانى سببا فى فقدان البريطانيين/البريطانيات فرص العمل، واستنفاد إمكانات نظام التأمينات الاجتماعية وخدمات التعليم والصحة المجانية من دون فائدة منظورة بالنظر إلى أن غالبية العمال المهاجرين كانوا من ذوى المهارات البسيطة والدخول المتدنية.
تصف المذكرات كذلك، المفاوضات على مدى سنوات بين الاتحاد والمملكة المتحدة للبحث فى تفاصيل الانفصال، وتتذكر شعورها بالبرم والضيق من تلك المرحلة، وأنها حاولت، رغم استياء بعض زعماء دول الاتحاد، مساعدة كاميرون على التوصل إلى ترتيبات لا تعزل بريطانيا كلية، لا سيما فيما يتعلّق بشئون تنقل المواطنين والمواطنات والتجارة بين الجانبين، لتخلص إلى حقيقة مفادها «إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى كان تطبيقًا عمليًا لعواقب التى يمكن أن تنشأ عندما يكون هناك خطأ فى التقدير منذ البداية، ولا يتم تداركه سريعًا»، إذ تطورت الأمور - بعد دعوة كاميرون رفاقه النواب المحافظين إلى ترك «تحالف الشعب الأوروبى» - بحيث لم يعد ثمة من طريقة معقولة لمنع القدر المحتّم بخروج بريطانيا من عضوية الاتحاد.
• • •
تعرضت ميركل لانتقادات كثيرة بعد خروجها من السلطة بعدما توافق كثيرون فى المجال الغربى على تصعيد نبرة العداء لروسيا والصين، واتهموها بمحاباة البلدين العملاقين على حساب الأمن الأوروبيّ من أجل مصالح تجارية عابرة، وهى تدافع فى المذكرات عن توجهاتها بهدوء وعقلانية، إلا أن توقيت صدور الكتاب كان وحده كافيًا للرد على خصومها، إذ إن تورط ألمانيا، وإن كطرف غير مباشر فى الصراع الأوكرانى، انعكس بشكل أو بآخر على قدرة البلاد التنافسية بعدما خسرت إمدادات الطاقة الرخيصة من روسيا، وتقلصت فرص التصدير إلى سوق الصين، وفى وقت تتجه فيه إدارة الرئيس دونالد ترامب فى ولايته الثانية إلى فرض تعرفات جمركيّة على الواردات إلى السوق الأمريكى ما سيكون تأثيره مدمرا على الصناعات الألمانية، وهذا كله وضع فترتها فى السلطة كماضٍ ذهبى، وعهد ازدهار لم يعد ممكنًا.
• • •
على ذكر الرئيس ترامب، فإن ميركل تستعيد لقاءاتها مع الرئيس الأمريكى الذى اعتبرت أنه يحكم على كل شىء من منظور شخصية المطور العقارى الذى كانه قبل أن يقتحم معترك السياسة، وتقول إنه لا يشاركها اقتناعها بأن التعاون يمكن أن يكون استراتيجية تفاوض تؤدى إلى تحقيق مصلحة الجميع، إذ يعتقد أن جميع الدول كانت فى منافسة حادة مع بعضها بعضًا، حيث كان نجاح أحدها هو بالضرورة فشل للأخرى.
وتذكر أنها شعرت فى لقاء لها مع ترامب (2017) بحرصه على أن يكون محبوبًا، لكنها اعترفت بأن الحوار معه كان يجرى دائمًا على موجتين مختلفتين: «ترامب على المستوى العاطفى، وأنا على المستوى الواقعى».
• • •
اختارت ميركل عنوان «الحرية» لهذه المذكرات، وهى صاغتها كإجابة شغلتها طوال حياتها على سؤال معنى الحرية لسياسيّة نشأت فى ظل حكم شيوعى قبل أن تصبح قائدة للغرب الليبرالى فى جهته الأوروبية، وكسيدة اقتحمت عالما كان -على الأقل وقت توليها السلطة- أقرب إلى فضاء مغلق على الرّجال، وأيضًا كإنسانة عزمت مبكرا على أن تكسر حدود قدرتها الذاتية لتدير دولة كبرى معقدة مثل ألمانيا، ولتمثل مصالحها أمام أقوى الشخصيات فى العالم. وهى تقول إن الحرية، التى تبدأ عندها من عدم تقبل الحدود المفروضة علينا كأشخاص، تبدو أقرب إلى رحلة منها إلى حالة، «حيث التحسن المستمر وعدم التوقف أبدًا عن التعلم، وألا نقف مكتوفى الأيدى أمام الصعوبات، والإصرار على الاستمرار فى المضى قدمًا فى الحياة حتى بعد ترك خشبة مسرح السياسة».