المنظور الاقتصادي للأمن الفكرى العربي - مدحت نافع - بوابة الشروق
الثلاثاء 24 ديسمبر 2024 2:58 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المنظور الاقتصادي للأمن الفكرى العربي

نشر فى : الإثنين 23 ديسمبر 2024 - 6:45 م | آخر تحديث : الإثنين 23 ديسمبر 2024 - 6:45 م

بدعوة كريمة من الأستاذ الدكتور محمد مصطفى كمال، مدير معهد البحوث والدراسات العربية التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بجامعة الدول العربية، أقيم المؤتمر العلمى للمعهد حول قضية غاية فى الأهمية، وهى الأمن الفكرى العربى. تناولت جلسات المؤتمر تلك القضية المهملة (مع الأسف) من عدة زوايا ثقافية وإعلامية وسياسية واقتصادية. ولأننى كنت مشاركًا فى الجلسة المعنية بالأمن الفكرى العربى بين مهددات السياسة ومحددات الاقتصاد، والتى أدارها مدير المعهد وشاركنا المنصة فيها السفير جمال رشدى، المتحدث الرسمى للأمين العام لجامعة الدول العربية، فسوف أبسط للقرّاء الأعزاء فى هذا المقال جانبًا من مشاركتى فى المؤتمر.

• • •

بشكل عام يشير مفهوم الأمن الفكرى إلى حماية واستقرار الأفكار والمعتقدات والمعرفة داخل المجتمع. ويهدف إلى ضمان أن الأفراد والمجتمعات فى وقاية من الأيديولوجيات الضارة والمعلومات المضللة والتهديدات الفكرية التى يمكن أن تزعزع الهياكل الاجتماعية والاقتصادية.

فى الاقتصاد، يشير الأمن الفكرى إلى حماية الأصول الفكرية، مثل الأفكار والاختراعات والمعارف، التى تعتبر ضرورية للابتكار والنمو الاقتصادى، ويتضمن حماية تلك الأصول من السرقة والتسرّب وسوء الاستخدام والوصول غير المصرح به. ولأن الأرض تمر بتحولات اقتصادية كبرى، من شأنها التأثير على البناء الفكرى للمجتمعات، وتحويل الكثير من الأصول الفكرية للدول إلى قنابل موقوتة للتدمير، فقد كان من الضرورى اتخاذ تلك التحوّلات مقدمة منطقية لتناول قضية الأمن الفكرى، إذ إنها تمثّل تحديات وفرصًا يتعيّن على العقل العربى أن يتعامل معها، بعيدًا عن محفوظات وطوباوية مفاهيم القومية العربية التقليدية، المستعصية على التغيير، والمناوئة لكل ما هو أجنبى مهما كانت إضافته.

كذلك من المقدمات الضرورية فى هذا السياق، التأكيد على أن تحقيق الأمن الفكرى العربى يتجاوز الحماية من الهجوم الخارجى للأفكار الضارة، إلى وقف نزيف العقول، وحماية الإبداع والملكية الفكرية، وتقديم التمويل المناسب للتعليم والبحث والتطوير، وتطوير العقلية النقدية الإبداعية القادرة على فرز المعلومات وتحليلها.. ولا يمكن أن يتحقق كل ذلك إلا بعد تقييم للبناء الفكرى القائم بالمجتمعات العربية، إذ ليس من المنطقى أن تسعى جاهدا إلى المحافظة على بناء فكرى أصابه العطب وتمكّنت منه عقائد متطرفة (على سبيل المثال). بل إن بعض المجتمعات العربية استطاعت أن تحقق طفرة ثقافية واقتصادية بفضل انفتاحها (المتأخّر) على ثقافات أجنبية، بينما كانت الحواجز الفكرية الشاهقة التى أقامتها حول مجتمعاتها لعقود طوال، مفرخًا لأفكار أصولية شديدة التطرّف والرجعية، ومصدر تهديد لمختلف دول الجوار، وربما العالم بأسره، عبر تصدير تلك الأفكار إلى الخارج.

وقد لاحظت وأنا أقلّب فى الأدبيات استعدادًا لمشاركتى بالمؤتمر، أن الكتابات العربية شحيحة فى هذا الموضوع، وأنها على شحها وندرتها منحازة إلى ما نسمّيه عقلية السلامة safety mindset فى مقابل الأدبيات باللغة الإنجليزية التى تناولت الأمن الفكرى من زوايا عدة بعقلية النمو growth mindset. أما النوع الأول من العقليات، فهو يجنح إلى الدفاع والحماية وتوقّى السلامة من الضرر بتقديمه على مختلف الاعتبارات. هو إذن يتعامل مع كل ما هو جديد باعتباره تهديدًا وتحديًا يجب التخلّص منه. وأما عقلية النمو فهى تبحث عن الفرص، وتسعى إلى تعظيم العائد من الانفتاح على الآخر، وتحرّى استغلال الفرص الضائعة التى يفقدها المجتمع إذا تراجعت أصوله الفكرية بصور مختلفة، فى مقدمتها هجرة العقول النابهة التى تستنزف دولًا كبرى حاليًا مثل روسيا.

وعلى الرغم من أهمية عقلية السلامة فى التعامل مع المخاطر والتحديات، فإنها ليست كافية ولا محققة لأهداف التنمية والتطوّر؛ إذ إن غايتها تحقيق الاستقرار والمحافظة على ما هو قائم. التحوّل التقنى إذن تهديد، ومنصات التواصل الاجتماعى تهديد، وتطبيقات الذكاء الاصطناعى تهديد.. لكن وحدها عقلية النمو تشتبك مع تلك التهديدات باعتبارها فرصًا، يتعيّن على المجتمع أن يستثمرها لا أن يتجنّبها ويمنعها وينغلق على ذاته لتحقيق الأمن والاستقرار! الاستثمار هنا يتطلّب تعليم وتثقيف وتوعية وفتح المجال لتلك التحوّلات، مع وضع الضوابط التى تحول دون طغيان تداعياتها السلبية على وفوراتها الإيجابية.

• • •

لطالما نظرت المجتمعات العربية إلى ظاهرة «العولمة” باعتبارها تهديدًا، وكانت الأعمال الدرامية تتناول المصطلح من زاوية أنه الخطر الداهم الذى سوف يقضى على المثل والأخلاقيات والثقافة العربية. وعلى الرغم من وجاهة هذا الطرح لو أننا نظرنا إليه من جانب ضيق، فإن تطوير عقلية النمو كان سيحملنا على البحث عن الفرص الكامنة خلف اتساع ظاهرة العولمة، وما أنجزته فى اقتصادات نامية فقيرة، استطاعت أن تغنم من هذا الانفتاح، عبر حرية التجارة وحركة انتقال القوى العاملة وتدفقات الاستثمار الأجنبى. وإذ يشهد العالم حاليًا موجة من الارتداد خلفًا عن طريق العولمة، ضمن التحوّلات الكبرى التى أشرنا إليها آنفًا، فإن العرب لابد وأنهم قد تعلّموا الدرس، وفطنوا إلى أن هذا الارتداد هو فرصة وتهديد، وأنه ليس ثمة وصفة سحرية تصلح للجميع للتعامل مع هذا الارتداد.

الحروب التجارية والتضييق على حرية التجارة وانتقال فائض العمالة بين الدول، فضلًا عن تداعيات تغير المناخ والجوائح.. هى متغيرات تسببت فى تصاعد حدة أزمات جانب العرض، وأدخلت العالم فى موجة من تضخم الأسعار، نتيجة لارتفاع تكاليف الإنتاج. هذا الارتفاع فى معدلات التضخم كانت نتيجته موجات التشديد النقدى العاتية التى اجتاحت البنوك المركزية وضاعفت من حدة أزمات الدين ومن ثم الفقر والبطالة فى الدول النامية. تلك لمحة من التداعيات السلبية لتراجع وشيك «محتمل» عن العولمة بشكلها المعتاد. فى المقابل بدأت عدة دول فى الاستعداد لتلك الهجمات بمزيد من تعميق المكوّن المحلى فى الإنتاج، والاعتماد على الدول الصديقة والقريبة فى استكمال وربط سلاسل الإمداد، والاستثمار بكثافة فى التقنيات العالية ورأس المال البشرى، مع دعم مختلف مقوّمات التنمية البشرية لوقف نزيف العقول إلى الخارج.

وقد بلغ متوسط الإنفاق على التعليم فى الدول العربية عام 2023 حوالى 4,5% من الناتج المحلى الإجمالى. وهى نسبة إجمالية معقولة نسبيًا بالنظر إلى التفاوت الكبير بين الدول العربية فى هذا الباب من الإنفاق. فهذه النسبة متأثرة بإنفاق دول الخليج العربى، إذ تستثمر الإمارات والسعودية بشكل كبير فى تحسين جودة التعليم. مع ذلك، تصل هذه النسبة إلى 5,8% فى إسرائيل وإلى 6,18% فى جنوب إفريقيا. ينفق العرب نحو 0,5% فقط من الناتج المحلى الإجمالى على البحث والتطوير، بينما تصل هذه النسبة إلى 4,9% فى إسرائيل و0,8% فى جنوب إفريقيا.

وتشير بعض الدراسات إلى أن حوالى 31% من الكفاءات والعقول المهاجرة من الدول النامية تأتى من الدول العربية. من بين هؤلاء، يهاجر إلى أوروبا والولايات المتحدة وكندا حوالى 50% من الأطباء، 23% من المهندسين، و15% من العلماء فى تخصصات مختلفة. وإذ يحلو للبعض النظر إلى هجرة العقول باعتبارها مصدرًا لتحويلات العاملين فى الخارج من النقد الأجنبى! فإن فرص النمو الضائعة أكبر بكثير من هذا «الريع» المتواضع المنتظر لتصدير أبناء الوطن والعقول النابهة، التى لا يقدر إنتاجها الفكرى والتنموى بثمن. بعض الدراسات قدّرت الخسائر المادية الناتجة عن هجرة العقول العربية بأكثر من 200 مليار دولار سنويًا (قدّر الناتج الإجمالى للدول العربية فى 2023 بنحو 2,8 تريليون دولار). هذا النزيف المتصل يؤدى إلى نقص فى الخدمات الطبية والتعليمية، وتدهور الكفاءة والإنتاجية فى مختلف المجالات، ويؤثر سلبًا على النمو الاقتصادى ومقومات التنمية المستدامة فى العالم العربى.

• • •

من الجوانب المهمة أيضًا فى تحقيق الأمن الفكرى العربى، التصدّى للهجمات السيبرانية المتزايدة، والتى باتت مدعومة بالذكاء الاصطناعى بشكل كبير. الآثار المالية للهجمات السيبرانية كبيرة، فقد بلغ متوسط الفدية المطلوبة فى الهجمة السيبرانية عالميًا ما قيمته 2,73 مليون دولار فى عام 2024، بزيادة قدرها مليون دولار عن متوسط الفدية فى عام 2023. وقد ارتفع حجم الإنفاق العالمى على الأمن السيبرانى فى عام 2024 بنسبة 14% مع زيادة بنسبة 25% فى الإنفاق على منتجات وخدمات أمن السحابة.. وهذا كله له دلالات واضحة على أهمية حماية الأصول الفكرية من أعمال القرصنة والاستنزاف.

 

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات