• لا بد من إعادة قراءة أهم ما كتب عن حرب أكتوبر والبحث عن الجديد الذى لم ينشر والتنقيب فى الملفات والبطولات والأسرار التى لم يعلن عنها
• ضرورة تعريف الأجيال الجديدة بهذه الملحمة وأبطالها
• كتاب المندوه يكشف لأول مرة تفاصيل بطولة رائعة من بين بطولات عديدة لم يكشف عنها النقاب حتى الآن
• سمعت بأذنى تفاصيل البطولة وأحداثها من صاحبها مباشرة قبل أن أقرأها بين دفتى الكتاب
• شعور مباغت وعارم بالإكبار والفخر والسعادة وتجديد الإيمان بعظمة هذا البلد وأبنائه
• مصر تستحق أن يُسطر من أجلها هذه الملاحم التى لم يصل إليها خيال ولا أبدعته مخيلة عبقرية.. لكن جسدته بطولة واقعية فذة تستحق أن تروى وأن تسجل وأن تذاع
(1)
لا أحب المبالغة فى الإنشاء ولا التكرار ولا الاجترار فى مناسباتنا الوطنية، أعتبر أن الاحتفال الحقيقى بأى مناسبة عزيزة على نفوسنا لا تكون إلا بالإلحاح على جوهر البطولة فى هذه المناسبة، القيمة الحقيقية التى تبقى وتظل باقية، قيمة البذل والعطاء وتجلى المعدن الأصيل لهذا البلد وأهله. وأنا أعترف بأن المناسبة الوحيدة التى أنتظرها من العام إلى العام هى ذكرى انتصار أكتوبر 73، ثم ذكرى تحرير سيناء (25 إبريل من كل عام) ليس فقط بسبب النوستالجيا العارمة التى تجتاح أبناء جيلى بكل ما يربطهم بعقدى الثمانينيات والتسعينيات وعلاماتهما الثقافية البارزة:
«دموع فى عيون وقحة»، «رأفت الهجان»، «ليالى الحلمية»، دراما السبعينيات الاجتماعية والإنسانية، برامج التليفزيون، مواد القناتين الأولى والثانية، أفلام الحرب وأغانيها المنعشة الشجية.. إلخ، أقول ليس فقط للتلذذ بهذه النوستالجيا المحببة، بل أيضا لاستعادة خبرات والتذكير ببطولات «حقيقية»، قام بها ونفذها مصريون بسطاء يحبون هذا البلد ويعشقون ترابه.
من بين طقوس محددة تبدأ مع مطلع أكتوبر من كل عام، أجدد دائما العهد بتفاصيل هذه الحرب؛ أيام المجد والكرامة والإحساس الوطنى الذى يكاد يرتقى إلى مصاف روحانية لا حد لها. لا بد من إعادة قراءة أهم ما كتب عن هذه الحرب، البحث عن الجديد الذى لم ينشر، التنقيب فى الملفات والبطولات والأسرار التى لم يعلن عنها، التأكيد على ضرورة تعريف الأجيال الجديدة بهذه الملحمة وأبطالها.
ودائما ما أنتهز المناسبة لاستدعاء بعض تفاصيل هذا الحدث التاريخى المعجز، ودائما ما ألح على أهمية دعم وتكوين خلفية معرفية عامة ودقيقة فى الوقت ذاته عن الملامح العامة والإطار الكلى لهذه الحرب العظيمة، بالإشارة والتنويه إلى عدد محدود من الكتب التى أظن أنها أساسية أو مرجعية فى تناولها للحدث الكبير.. (وقد تكون بعض تفاصيل هذه الحرب معلومة لمن عاصرها أو قرأ عنها شيئا، وقد تكون غائبة بالكلية عن أذهان أجيال صاعدة، فمن ولد فى سنة الحرب ذاتها أصبح عمره الآن 44 سنة، ولك أن تتخيل حجم المعرفة المتاحة لطفل فى العاشرة من عمره الآن بالقياس إلى مثيله قبل 10 أو 20 سنة من الآن.. وهذا موضوع يطول شرحه!
(2)
فى هذا السياق، أعتبر صدور كتاب «خلف خطوط العدو ــ من بطولات حرب أكتوبر 73» للواء أسامة المندوه، حدثا مهما وجميلا يستحق الاحتفاء والتنويه. خصوصا أن الكتاب صدر عن دار الشروق قبل أيام من الاحتفال بالذكرى الـ 44 لحرب أكتوبر، وهو يكشف، لأول مرة، تفاصيل بطولة رائعة، فذة، من بين بطولات عديدة لم يكشف عنها النقاب حتى الآن.
ولأننى أسعدنى الحظ، وتيسرت لى الظروف، كى أكون شاهدا على جلسة من جلسات الإعداد والتحضير لظهور الكتاب، بحضور مؤلفه البطل، ومحرره الكاتب والصديق خالد أبوبكر، فإن هذا الكتاب تحديدا احتل مكانته فى روحى ونفسى فورا.. لقد سمعت بأذنى تفاصيل البطولة وأحداثها من صاحبها مباشرة قبل أن أقرأها بين دفتى الكتاب. شعور مباغت وعارم بالإكبار والفخر والسعادة وتجديد الإيمان بعظمة هذا البلد وأبنائه.. إن مصر تستحق أن يُسطر من أجلها هذه الملاحم التى لم يصل إليها خيال ولا أبدعته مخيلة عبقرية، لكن جسدته بطولة واقعية فذة تستحق أن تروى وأن تسجل وأن تذاع.
لم أكن أتصور أبدا أن شيئا كهذا يمكن أن يحدث أو حتى يكون محتمل الحدوث! يقولون إن الواقع لا يضاهى الخيال، لكن هناك أمورا مهما سرح خيالك تتجاوز الحدود والآفاق، هنا أحداث حقيقية وقعت على الأرض قد تفوق روعة وجمالا هذا الخيال مهما كان.. لكن: ما هى هذه المهمة؟ وما تفاصيل خلق البطولة فيها؟
(3)
بتكثيف وإيجاز، هى مُهمة خاصة يُكلف بها أحد رجال قوات الاستطلاع الحربى خلف خطوط العدو فى عمق سيناء، ستبدأ هذه المهمة مع آخر ضوء فى أول أيام العبور العظيم، السادس من أكتوبر 73، بينما كان الرجال المقاتلون المصريون الأشداء على طول جبهة قناة السويس يخوضون معارك شرسة لمنع قوات النسق الثانى للعدو من الوصول لخط القناة بهدف إحباط عملية العبور برمتها.
فى الوقت الذى كان فيه رجال المهندسين العسكريين المصريين يقاتلون الوقت بجسارة للانتهاء من فتح الثغرات فى الساتر الترابى المعروف باسم «خط بارليف» الذى أقامه الاحتلال بطول الضفة الشرقية للقناة؛ تمهيدا لتشغيل الجسور (الكبارى) التى ستعبر عليها قواتنا الرئيسية إلى سيناء بأسلحتها الثقيلة لاستكمال تحرير الأرض والاستعداد لصد الهجوم المضاد الرئيسى للعدو.
كان مقررا لهذه المهمة أن تستمر لمدة تسعة أيام فقط، وتعود المجموعة المكلفة بقائدها ورجالها. لكن الذى حدث غير ذلك، لم تعد القوة بعد تسعة أيام، بل استمرت فى موقعها خلف خطوط القوات الإسرائيلية لمدة ستة أشهر كاملة! نعم.. ستة أشهر كاملة فى قلب سيناء، وحدك محاطا بقوات العدو دون عتاد ولا إمداد ولا تموين، لكن ليس هذا كله هو المهم!
إنما الأهم أن هؤلاء الرجال، وطيلة الأشهر الستة، هذه يؤدون مهمتهم على أكمل وجه، يستطلعون ويتحرون ويرصدون بدقة كل ما يرونه من تحركات العدو ويسجلون ما يجمعونه من معلومات وتحركات، ويرسلونها فورا عبر جهاز الاتصال اللاسلكى المرفق معهم! بتعبير صاحب البطولة اللواء أسامة المندوه «حنفية معلومات لا تنقطع».
ستة أشهر فى عمق سيناء، وأنت أمام دروب من الحيل فى التخفى والمراوغة وتضليل العدو، استطاعت خلالها «المجموعة لطفى» التى قادها النقيب آنذاك أسامة المندوه، وعريف اللاسلكى والدليل البدوى، استطاعت التسلل والبقاء فى قلب قوات العدو الإسرائيلى وخلف خطوطهم من موقع متقدم جدا فى وسط سيناء، بالتحديد عند منطقة «بير جفجافة ووادى المليز»، ومن خلال «نقطة الملاحظة» التى تمركزت فيها تلك المجموعة الباسلة تمكنوا من وضع التحركات الإسرائيلية أمام القيادة المصرية لحظة بلحظة؛ سواء التحركات الجوية، صعودا وهبوطا، فى مطار المليز الحيوى، أو نشاط العدو فى «مركز القيادة والسيطرة» الإستراتيجى فى منطقة «أم مرجم» القريبة من مطار المليز، والتى يحدها من الشمال «جبل قديرة»، ومن الجنوب «جبل سحابة»، وتشرف على «الطريق الأوسط»، محور الاقتراب الرئيسى للعدو فى وسط سيناء.
واستطاعت هذه المجموعة أيضا، من خلال تمركزها فى هذه النقطة الحاكمة، رصد التحركات الأرضية للعدو على شبكة من الطرق الاستراتيجية، أهمها «الطريق الأوسط»، الذى تندفع عليه الأرتال الإسرائيلية فى اتجاه جبهة القتال بطول شاطئ قناة السويس غربا، أو العودة إلى الخطوط الخلفية وعمق إسرائيل شرقا؛ ذلك أن هذا الطريق الإستراتيجى يربط بين الإسماعيلية (عند موقع المعدية نمرة 6) والعوجة على خط الحدود المصرية ــ الفلسطينية، ويمتد حتى يصل إلى بئر سبع والخليل والقدس.
كذلك تمكنت تلك المجموعة من رصد التحركات الإسرائيلية على الطريق العرضى الواقع شرق منطقة الممرات (أو المضايق) الجبلية الاستراتيجية فى عمق سيناء، والواصل بين «الطريق الأوسط» شمالا، مرورا بـ«طريق الجدى»، وصولا إلى «طريق متلا» جنوبا. ويعرف هذا الطريق باسم «وصلة الجفجافة ــ بير تمادة»، التى تستغلها إسرائيل فى أعمال «المناورة بالقوات» بين المحورين الأوسط والجنوبى فى سيناء.
عقب العودة فى مارس 1974 استقبل وزير الحربية آنذاك المشير أحمد إسماعيل بنفسه، عليه رحمة الله، بطل هذه العملية بعد أن زفه الضباط والجنود وفرشوا له الأرض ورودا ابتهاجا بعودته؛ بطل من مصر، مكث ستة أشهر كاملة خلف خطوط العدو.
(4)
بعد خمسة عشر عاما من تاريخ هذه البطولة، يروى اللواء أسامة المندوه (الذى ترك القوات المسلحة إلى المخابرات العامة ومنها إلى السلك الدبلوماسى) أنه لن يستطيع نسيان ذلك اليوم الموعود من أيام سبتمبر 1989. كان وقتها قُنصلا عاما لمصر فى تل أبيب، عندما توجه خلال ذلك اليوم إلى إحدى قرى مدينة حيفا الواقعة أعلى قمة «جبل الكرمل» لتلبية دعوة للغداء وجهت إليه من جانب أحد أنصار حزب «الليكود» الإسرائيلى، وذلك رفقة السفير المصرى الأسبق فى إسرائيل، الراحل محمد بسيونى، و«ديفيد ليفى» وزير الخارجية الإسرائيلى آنذاك، وضيف ثالث قدمه لهما المضيف بقوله: «فلان الفلانى.. ضابط احتياط فى الجيش الإسرائيلى، ينتمى إلى الطائفة الدرزية. شارك فى حرب يوم الغفران (6 أكتوبر 1973)، وكان قائدا لوحدة قصاصى الأثر فى وسط سيناء خلال هذه الحرب، برتبة رائد»!
يحكى اللواء المندوه وأنا أستمع مذهولا «بعد أن انتهى المضيف من تقديم هذا الضابط الإسرائيلى إلينا تقابلت عيناى بعينى السفير «محمد بسيونى» فى ذات اللحظة مع ابتسامة خفيفة ارتسمت على شفاه كليْنا، ويبدو أن المعنى الذى وصلنى قد وصله؛ ذلك أنه كان على علم بتفاصيل المهمة التى أنجزتها خلال حرب أكتوبر المجيدة، لقد كان هذا الضابط الإسرائيلى الذى يجلس أمامى الآن، على بعد خطوات منى خلال رحلة البحث الشاقة التى خاضتها وحدة قصاصى الأثر الإسرائيلية!!».
مفاجأة مذهلة، لقد كان اللواء أسامة المندوه ــ وجها لوجه ــ أمام الضابط الإسرائيلى الذى كان مكلفا بكشف مجموعته وإلقاء القبض على أفرادها للقيام بأعمال استطلاع وتجسس على القوات الإسرائيلية فى سيناء!
سأدع اللواء المندوه نفسه يعلق على هذه اللحظة الدرامية بامتياز، لحظة يتوقف أمامها التاريخ وتقشعر لها أبدان.. يقول البطل:
«امتلأت بالفخر وأنا جالس فى مواجهة هذا الضابط الإسرائيلى الذى رحت أتفرس ملامحه، بينما ترتسم على وجهى ابتسامة قاتلت للسيطرة عليها والتحكم فيها بالشكل الكافى. ولما فشلت فى ذلك قلت: دعهم يعتبرونها نوعا من المجاملة. قلت لنفسى: إن المعنى الوحيد لوجودى أمام هذا الضابط الإسرائيلى الآن أننى انتصرت عليه، وفى شخصى وشخصه تجسد ذلك الحوار ــ الذى كان بالنار والنابالم والعلم والمعرفة ــ بين مصر وإسرائيل فى ذلك الخريف العاصف من سنة 1973، وربحته «أم الدنيا» التى حقق أبناؤها البررة فى هذه الحرب المجيدة معجزة على أى مقياس عسكرى، بتعبير الرئيس الراحل محمد أنور السادات».
نعم، إن الخيال ليتضاءل أمام لحظات واقعية فذة، لحظات يندر أن تتكرر أو تحررها يد إنسان مهما كان!
(5)
إن هذا الكتاب بجانب أنه يحكى قصة البطولة، التى قامت بها «المجموعة لطفى» فى القيام بأعمال الاستطلاع خلف خطوط العدو أثناء (حرب أكتوبر 1973)، فإنه يستعرض فى بدايته المواجهات العربية ــ الإسرائيلية، بداية من (حرب فلسطين 1948)، التى ولد اللواء أسامة المندوه أثناءها، أو (حرب السويس 1956)، التى شاهدها ووعاها من خلال مشاركة أخيه فيها، وكذلك بحكم قربه الجغرافى من بورسعيد مسرح العمليات الرئيسى لحوادثها؛ فكان يشاهد الطائرات المعادية تحلق فى سماء قريته «أبوذكرى» التابعة لدكرنس ــ دقهلية فى هذا الوقت الباكر من طفولته، أو (حرب يونيو 1967)، التى شارك فيها مع أبناء دفعته قبل تخرجه فى الكلية الحربية، أثناء أعمال الدفاع عن القاهرة.
ولهذا حرص مؤلف الكتاب على أن يكون المنهج الحاكم فى كتابة قصة بطولة «المجموعة لطفى» أن تنطلق من وضعها فى سياقها الطبيعى، الذى يتمثل هنا فى مجمل أعمال القتال التى خاضتها قواتنا المسلحة خلال هذه الحرب المجيدة؛ ولذلك يقول اللواء أسامة المندوه فى تقديمه: «إن قارئ هذا الكتاب عندما ينتهى منه سيجد أنه لم يصبح ملما فقط بقصة هذه المجموعة التى دفعت بها القيادة المصرية إلى قلب العدو النابض للتمركز قرب مركز أعصابه لعد حركاته وسكناته وآلياته توطئة لكشف نواياه بالعلم والمعرفة لا بالتخمين أو بالتحليل غير المعتمد على معلومات وبيانات كافية ودقيقة، بل إنه سيخرج وهو ملمٌ بشكل معقول بما أنجزته قواتنا من بطولات خلال هذه الحرب المجيدة يوما بيوم حتى وقف إطلاق النار وما بعده».
إن الهدف الرئيسى من نشر هذا الكتاب فى هذا التوقيت الدقيق من عمر الوطن هو تنشيط ذاكرة الأجيال الجديدة التى لم تعش لحظات الانتصار الذى حققته قواتنا المسلحة فى حرب أكتوبر 1973؛ ليتلمسوا عن قرب من خلال عمل «المجموعة لطفى» كيف كان من السهل اليسير على شباب فى مثل أعمارهم الآن، أن يندفعوا للتمركز فى قلب قوات العدو وتجمعاته، وهم يعلمون أنهم يحملون أرواحهم على أكفهم لأجل أن تحيا مصر.
وبعد.. فإن هذه الحرب وذكراها بكل ما تحمله كل عام من مشاعر نبيلة واستدعاءات أصيلة لبطولات هذا الشعب، ومن ضمنه قواته المسلحة وجنوده البواسل، ستظل دائما ذكرى باعثة على الفخر والأمل وتعميق الانتماء الوطنى وترسيخ لحظات مضيئة وعامرة بكل معانى الاعتزاز والفخار يحق لنا إعلانها والاحتفال بها ولا نكترث فى كثير أو قليل لمن أراد أن يهيل التراب ويضرب «كرسى فى الكلوب» بحسن نية أو غيرها.
كل عام وبلدنا باقية وشعبنا صابر وقواتنا المسلحة «عمود الخيمة» الذى كلما كان راسخا ضاربا بجذوره فى أعماق هذه الأرض كنا صامدين.. وقادرين إن شاء الله.