أوقع تطبيق أنوم «An0m»، بشبكة من جماعات الجريمة المنظمة بطريقة لم تكن فى الحسبان. تطبيق أنوم هو تطبيق للتواصل يشبه تطبيق WhatsApp، لكنه يعمل على موبايل مشفر بالكامل، ولابد أن يدعوك أحد مستخدمى «أنوم» لتستطيع استعماله. والتطبيق نفسه عبارة عن شاشة تشبه الحاسب، وبه زر يحول التطبيق إلى نظام الرسائل المشفرة. ولقد انتشر التطبيق بداية من عام 2018 بين العصابات الإجرامية عبر العالم، لاسيما فى أستراليا، وسنعرفك بعد قليل لماذا انتشر هناك بالتحديد. وبحلول عام 2020 ناهزت عدد الأجهزة حوالى 12 ألف جهاز تستعمل التطبيق فى عالم الجريمة المنظمة. علما بأن تكلفة استخدام التطبيق 2000 دولار لكل ستة أشهر. وكل من استخدم التطبيق اعتقد أنه آمن وبعيد عن أعين أجهزة الأمن. كل هذا كان يجرى تحت أعين ثلاث وكالات أمنية، منها المباحث الفيدرالية الأمريكية، والشرطة الفيدرالية الأسترالية، وجهاز أمنى لدولة ثالثة لم يكشف عن اسمها. ولسبب ما قررت الأجهزة الثلاثة توجيه ضربة قوية لشبكة المخدرات الأسترالية «Aussie Cartel» التى وقعت فى براثن تطبيق أنوم. وأسفرت العملية الأمنية خلال ثلاث سنوات لتوقيف 800 مشتبه فى 18 دولة، ووقع أكبر عدد منهم، حوالى 224 متهما، فى قبضة الشرطة الأسترالية يوم 8 يونيو الجارى. ولكن زعيم الكرتيل «Hakan Ayik»، التركى الأصل لازال طليقا ويعتقد أنه يباشر أعماله فى تركيا. ولقد وجهت له الشرطة الأسترالية نداء بتسليم نفسه حفاظا على حياته، وسنبين لماذا حياته فى خطر؟.
•••
كارتيل المخدرات هذا له نشاط فى الشرق الأوسط كذلك، ووكلاء فى دبى، والرياض، وأماكن أخرى. وهو مسئول عن حجم تعاملات يصل إلى 2,5 مليار دولار سنويا. ويتركز عمله على جلب المخدرات إلى أستراليا. أما لماذا أستراليا تحديدا، فلأنها واحدة من أكثر الأسواق ربحية فى مجال بيع وترويج المخدرات. ولذلك فى مقابلة ودية خارج إطار العمل عام 2018 بين عناصر من الشرطة الفيدرالية الأسترالية، وبين عناصر من مكتب التحقيقات الفيدرالى الأمريكى، دار الحوار حول تطبيقات تستعملها جماعات الجريمة المنظمة فى اتصالاتها والتى فكت شفرتها أجهزت الأمن الأوروبية وأوقعت بعدد من شبكات الإجرام. ومنها تطبيق «سكاى إى سى سى»، الذى كانت تستعمله المافيا. كما تم تصفية شركة «فانتوم سكيور» صاحبة تطبيق بلاك بيرى الشهير والذى كان من الصعب جدا اختراقه. وبعد هذه الضربات أصبحت السوق بحاجة إلى تطبيق آخر يملأ الفراغ الذى خلفه انكشاف هذه التطبيقات. وهنا برز تطبيق «أنوم». وإليك المفاجأة. فالذى صنع التطبيق، هو عنصر إجرامى ينتمى لشبكات تهريب المخدرات، ويعرف ما فى التطبيقات السابقة من عيوب. ووافق على التعاون مع السلطات فى عمل تطبيق جديد من أجل تخفيف الحكم عليه. وبرع فى تنفيذ المهمة، حيث طور تطبيق أنوم. لكن التطبيق الذى تم تطويره بمعرفة المباحث الفيدرالية كان ينقصه أمران. الأول، تم حله فى اللقاء الودى بين الشرطة الأسترالية والمباحث الفيدرالية، حيث تبين أن الجانب الأسترالى لديه تقنية متقدمة تستطيع حل شفرات الرسائل وحفظها. والثانى هو كيفية توزيع تطبيق أنوم والموبايل المشفر! وتم تكليف السجين بهذه المهمة كشرط أخير لتخفيف العقوبة.
استطاع السجين تنفيذ المهمة بعد أن أعاد الاتصال بالشبكة التى كانت تدير تطبيق «سكاى إى سى سى». وكانت البداية عبر توزيع 50 موبايلا به تطبيق أنوم. واشترط السجين على مروجى الشبكة أن يتولى التنفيذ صديقه «Hakan Ayik»، وهو على رأس قائمة المطلوبين للعدالة فى أستراليا، كما أنه يحظى بعلاقات واسعة فى عالم التنظيمات الإجرامية، ويستطيع التنقل بين الشبكات بسهولة. وبسببه انتشر استخدام التطبيق على نحو واسع، مكن الأجهزة الأمنية من متابعة ومعرفة بعض مما يدور فى عالم الجريمة المنظمة. علما بأن الضربات التى أوقعتها الشرطة خلال الفترة من 2018 إلى 2021، كانت محسوبة بدقة لكيلا يشك أحد فى سرية وأمان التطبيق الذى صنعته الـFBI. ولذلك تم إحباط العديد من الجرائم، والتحفظ على 45 مليون دولار، و3000 كجم من المخدرات، وإنقاذ حياة العديد من الأشخاص. لكن الأمر المثير للانتباه هو ما كشفه رئيس لجنة الاستخبارات الجنائية الأسترالية «Mike Phelan»، الذى أشار إلى عدة أمور تجرى فى عالم الجريمة. أولا، معظم أعضاء الشبكة يخونون بعضهم البعض ويعملون لحسابهم الشخصى. وفكرة الولاء لا مكان لها بين الشبكات، فقواعد اللعبة معروفة. وبمجرد سقوط بعض أعضاء الشبكة، يمتلئ مكانهم بمجرمين آخرين. ثم إن محتوى الرسائل التى يتبادلونها وهم يظنون أنها سرية، تكشف عن وحشية وبرود وعدم التراجع عن تنفيذ الجرائم إلا فى أضيق الحدود. وثمة رأى آخر لخبراء فى عالم الجريمة المنظمة، يرون أن الإيقاع بهذا الكارتيل أمر حميد جدا، لكنه لن يقضى عليها. فلم يستعمل كل المجرمين التطبيق المشفر، والتقديرات أن حوالى ثلث الشبكة فقط تم الكشف عنها. ولذلك أصبح السؤال البديهى، لماذا قامت المباحث الفيدرالية الأمريكية بالكشف عن العملية «درع طروادة» التى تسميها الشرطة الأسترالية عملية «الجانب الحديدىس؟.
•••
الإجابة جاءت من رئيس لجنة الاستخبارات الجنائية الأسترالية، الذى قال، نعلم ما سيحدثه انكشاف أمر تطبيق أنوم من تداعيات فى عالم الجريمة المنظمة. ونعرف أن آلافا من المشتبه بهم حطموا الموبايل. كما نعلم أن شبكات أخرى تحاول الاستفادة من الفراغ الذى أحدثه الإيقاع بكارتيل المخدرات الأسترالى، الذى يمتد فى بلدان عدة. ولكننا أوصلنا رسالة إلى عالم الجريمة المنظمة، مهما تفوقوا علينا فى مجال الاتصالات فسنلاحقهم ونغلبهم ولن يفلتوا من قبضتنا. وعن رأيه فيما إذا كانت الجريمة المنظمة ستتراجع، قال، قد تتراجع لبعض الوقت، إلى حين الوصول لتكنولوجيا اتصالات جديدة. لاحظ أن معظم شبكات الجريمة المنظمة تستطيع استثمار مليارات فى عمل شبكات اتصالات آمنة. فهم لا يستطيعون العمل بدونها. ويبدو أنهم عائدون لاستعمال الجيل الأول من الموبايلات التى يصعب اختراقها لأنها أجهزة تقليدية، إلى حين حصولهم على شبكة اتصالات جديدة. والأمثلة عديدة، فمثلا كارتيل المخدرات المكسيكى يعتمد على شبكة اتصالات منفصلة تماما عن شبكة الدولة. وهو ما يجعل عملها متطورا، ويستعصى على الحكومة مواجهته. ثم لاحظ أن أرشيف الرسائل التى حصل عليها المحققون، والتى تصل إلى 25 مليون رسالة، هى كنز معرفى هائل، يكشف المستوى التكتيكى أو الحركى لهذه الشبكات، لكنه يكشف القليل عن تفكيرهم العام، أو الاستراتيجى. وهذا ما تريد الأجهزة الأمنية الوصول إليه. ولكى تتضح فكرة المستوى الاستراتيجى، إليك هذا التوضيح، تطبيق أنوم هو الفاعل الحقيقى فى العملية، وكل ما احتاجه هو حركة من نوعية السجين الذى يريد عمل صفقة تنقذه، ومن ثم تم كشف الشبكة التى تعمل من أستراليا إلى أوروبا عبر الشرق الأوسط، وصولا إلى الولايات المتحدة نفسها.