صباح الثلاثاء، رغم الإعلان الأمريكى عن وقف لإطلاق النار بين إسرائيل وإيران، لا تزال أصوات الصواريخ تدوى فى سماء الشرق الأوسط. فالاتفاق الذى أعلنه الرئيس دونالد ترامب مساء الإثنين لم يترجم حتى الآن إلى تهدئة فعلية على الأرض. ومع ذلك، إن كُتب لهذا الاتفاق أن يصمد، فستبدأ مرحلة جديدة من التقييم السياسى والعسكرى لما بات يُعرف بـ«حرب الاثنى عشر يومًا»، وهى الجولة الأعنف بين الطرفين منذ أربعة عقود.
لكن السؤال الجوهرى يظل معلقًا: من خرج منتصرًا من هذه الحرب؟ إسرائيل التى بادرت بالضربة أم إيران التى صمدت واستمرت فى الرد حتى اللحظات الأخيرة؟
الجواب ليس مباشرًا ولا حسابيًا بل يتطلب تفكيك أبعاد المعركة العسكرية، وقياس تداعياتها السياسية، والنظر فى ما خلّفته من مكاسب ونكسات لكل طرف.
• • •
فى الحساب العسكرى البحت، لا شك أن إسرائيل سجلت نقاطًا قوية. فمنذ فجر 13 يونيو، شنت غارات مكثفة بالتعاون مع الولايات المتحدة على منشآت إيران النووية فى نطنز وفوردو وأصفهان، وقد تم اغتيال 10 علماء نوويين بارزين فى عمليات نوعية، وأصيبت البنية التحتية النووية بأضرار توصف بأنها كبيرة لكن قابلة للإصلاح بين أشهر وعامين.
إلى جانب ذلك، أظهرت إسرائيل مستوى غير مسبوق من الجاهزية فى تنسيق الضربات الجوية وتنفيذ عمليات اغتيال دقيقة فى عمق إيران. وفى السياق السياسى، كسب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو دعمًا أمريكيًا صريحًا، بعدما كان يشكو من برود العلاقة مع واشنطن فى عهد بايدن، ثم نجح فى تحويل إدارة ترامب نحو الحسم العسكرى بدل المسار الدبلوماسى.
ومع ذلك، فإن هذا النصر يحمل طابعًا مؤقتًا. إيران، رغم الخسائر، لم تُهزم. ونجحت فى إطلاق أكثر من 250 صاروخًا على إسرائيل خلال أيام، بينها صواريخ أصابت منشآت حيوية فى حيفا ومحيط ديمونا.
• • •
إيران من جانبها تلقّت ضربة قاسية على مستوى بنيتها التحتية النووية وشبكة علمائها. كما عانت من اختراقات أمنية جسيمة أتاحت للموساد تنفيذ عمليات دقيقة داخل أراضيها. لكن النظام الإيرانى لم يسقط، ولم يرضخ. بل استمر فى الرد العسكرى حتى اللحظة الأخيرة، موجهًا صواريخه نحو قواعد أمريكية وإسرائيلية، ما عزز صورته كطرف غير خاضع للهيمنة.
لكن ما بعد الحرب أصعب بكثير. إذ إن هذه الجولة كشفت هشاشة بنية إيران الأمنية، وأكدت أن أجهزتها الاستخباراتية، خصوصًا الحرس الثورى وجهاز استخبارات وزارة الأمن، تحتاج إلى إعادة هيكلة شاملة. الاغتيالات والاختراقات تمت دون رادع، فى مؤشر على عمق الأزمة الأمنية الداخلية.
والأخطر، أن الضربات الجوية فضحت ضعف الدفاعات الجوية الإيرانية، التى فشلت فى صد الغارات رغم شبكة الرادارات الواسعة. كما أظهرت الافتقاد إلى سلاح جو حديث، يحد من استباحة الطيران الإسرائيلى لكل شبر فى البلاد، ما يدفع صناع القرار فى طهران اليوم نحو خيارين لا بديل عنهما: إنفاق ضخم على تحديث الدفاع الجوى والطيران، بالتعاون مع روسيا والصين، وإعادة بناء منظومة الردع على أسس تكنولوجية حديثة وليس فقط عبر الأذرع الإقليمية، التى جرى تحييدها منذ أشهر، وتحديدًا حزب الله.
• • •
ما يمكن قوله بعد هذا التصعيد هو أن الطرفين لم يحققا نصرًا كاملًا. إسرائيل أضعفت البرنامج النووى الإيرانى بشكل مؤقت، لكنها لم تنهِه. وإيران خسرت مواقع مهمة، لكنها أظهرت قدرة على البقاء والرد، وأجبرت إسرائيل وأمريكا على الاكتفاء بجولة محدودة.
على المدى القصير، قد يُسجَّل الانتصار التكتيكى لصالح إسرائيل، لكن المدى البعيد سيكون مرهونًا بقدرة إيران على التعافى والاستفادة من الدروس. أما ترامب، فقد يكون الرابح السياسى الأكبر، بإظهاره صورة الرئيس القوى القادر على إدارة الحرب وإنهائها.
فى النهاية، لا يمكن اعتبار الحرب قد انتهت فعلًا. بل ربما تم تعليقها مؤقتًا إلى حين الجولة التالية. ومن الآن حتى ذلك الحين، سيُقاس النصر الحقيقى بقدرة كل طرف على التحضير لما بعد وقف إطلاق النار، سياسيًا وعسكريًا وأمنيًا.