مع مرور ستة أيام على الحرب بين إسرائيل وإيران، بات السؤال الأكثر إلحاحًا: من يملك زمام المبادرة العسكرية فى هذا الصراع غير المسبوق؟ هل ما زال التفوق الجوى الإسرائيلى هو أداة الحسم الأولى أم أن الصواريخ الإيرانية أعادت رسم ميزان الردع بل ربما قلبت قواعد اللعبة فى الشرق الأوسط؟
هذا النقاش لم يعد نظريًا. فالمواقف المتباينة فى تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتضارب تصريحات مديرها العام رافائيل جروسى، فضلًا عن النتائج الميدانية المتتابعة، تكشف أن الحرب دخلت مرحلة جديدة من اختبارات الكفاءة العسكرية والصلابة الاستراتيجية. وفى قلب هذا الاختبار تقف منشآت نطنز وفوردو، ومطار بن جوريون، ومنشآت حيفا، كأهداف رئيسية تفضح حدود القوة والضعف لدى كل طرف.
• • •
فى «الضربة الافتتاحية الكبرى»، نفذت إسرائيل هجومًا جويًا واسع النطاق باستخدام أكثر من 200 مقاتلة، مستهدفة منشآت نووية وعسكرية على عمق يزيد على 1500 كلم داخل الأراضى الإيرانية. على غرار نموذج «Beast Slap» الأمريكى، أرادت تل أبيب تحقيق شلل كامل لقدرات إيران خلال 48 ساعة.
لكن تقرير مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى مجلس المحافظين فى 16 يونيو أظهر أن المنشآت النووية الأساسية، خصوصًا نطنز وفوردو، لم تُدمر. ففى نطنز، تعرض الجزء العلوى من محطة التجريب لتلفيات، فيما بقيت قاعات الطرد المركزى تحت الأرض، التى تضم نحو 14,000 جهاز طرد عالى التخصيب، سالمة وفق البيان الرسمى.
رغم ذلك، عاد جروسى لاحقًا، وفى ذات اليوم، ليقول فى مقابلة مع الـBBC، إن هناك احتمالاً كبيرًا أن جميع أجهزة الطرد المركزى قد تكون دُمّرت بالكامل، وهو تناقض فاضح يفتح تساؤلات كبرى حول حيادية الوكالة، خصوصًا فى ظل الطموحات السياسية المعروفة لجروسى لتولى منصب الأمين العام للأمم المتحدة بعد أنطونيو جوتيريش.
الأهم أن الضربة لم تتمكن من اختراق التحصينات العميقة تحت الأرض، ما يسلّط الضوء على حدود فعالية الطيران الإسرائيلى ضد أهداف عالية التحصين. فإسرائيل لا تملك القنابل الخارقة للتحصينات (MOP GBU-57) القادرة على اختراق أكثر من 60 مترًا من الخرسانة المسلحة، وهى حكر على سلاح الجو الأمريكى. النتيجة: الطيران الإسرائيلى أحدث تشويشًا، لكنه لم يحقق الشلل المنشود.
• • •
فى المقابل، الرد الإيرانى جاء ضمن عملية «الوعد الصادق 3»، التى تضمنت إطلاق أكثر من 370 صاروخًا بالستيًا ومسيرًا على مدى ثلاث ليالٍ متتالية. المفاجأة لم تكن فقط فى الكثافة، بل فى قدرة هذه الصواريخ على اختراق منظومات الدفاع الإسرائيلية المتطورة متعددة الطبقات (Arrow، David’s Sling، Iron Dome).
حتى صباح الثلاثاء، بلغ عدد القتلى فى إسرائيل المعلن 24 شخصًا، ووقعت أضرار بالغة فى منشآت حيوية بتل أبيب، شملت مطار بن جوريون ومراكز الطاقة، ما أدى إلى شلل جزئى فى الحركة الجوية والمدنية. هذه الضربة هى الأوسع على الداخل الإسرائيلى منذ عام 1948.
بعكس الطيران، الصواريخ الإيرانية لا تحتاج إلى التزود بالوقود أو دخول المجال الجوى المعادى. بفضل تقنيات التخزين الجوفى والتحكم اللاسلكى والتوزيع الجغرافى، تحافظ إيران على جاهزيتها للرد حتى مع تدمير منصات الإطلاق. بهذا أصبحت الصواريخ أداة ضغط استراتيجية بامتياز، تفرض معادلة الرد على كل ضربة، وتؤكد حضور إيران فى معادلة الردع.
• • •
الضربة الإسرائيلية بُنيت على عنصر المفاجأة والتفوق التقنى، لكن الرد الإيرانى اعتمد على التأثير والشمول. فى الحروب الحديثة، لا تكفى دقة الإصابة، بل المهم كيف تُرغم العدو على تعديل سلوكه وتغيير استراتيجياته.
إسرائيل تملك تفوقًا جويًا واضحًا، لكنها مقيدة لوجستيًا وزمنيًا. فى المقابل، إيران تراهن على استراتيجية «الاستنزاف عبر صواريخ الكثافة»، وقد أثبتت حتى الآن قدرة على إرباك التفوق الجوى الإسرائيلى وشلّ الجبهة الداخلية.
الحرب الحديثة لا تُحسم بسلاح واحد. ما كشفته الأيام الماضية أن الصواريخ لم تعد سلاحًا ثانويًا بل عنصرًا مركزيًا فى منظومة الردع والسيطرة على وتيرة التصعيد أو التهدئة. ورغم أن تقرير جروسى لم يصرّح صراحة بفشل الضربة الإسرائيلية فإنه قال: التأثير «محدود»، والضرر «فوق الأرض»، والإشعاع «تحت السيطرة». وفى لغة الاستراتيجية، هذا يعنى: الهدف لم يُصَب بعد.