فى بلدين أوروبيين يُعتبر أمن إسرائيل جزءًا من «الضمير القومى» بعد الحرب العالمية الثانية، بلغت حدود التحالف نقطة الاختناق؛ فالنمسا وألمانيا، ورغم تاريخهما فى التضامن الثابت مع إسرائيل، لم تعودا قادرتين على تجاهل المأساة الإنسانية التى تشهدها غزة، والتى وصفها خبراء فى الإغاثة بأنها مجاعة مكتملة الأركان.
توقيع وزيرة الخارجية النمساوية، بيآته ماينل-رايسنجر، على بيان دولى يُدين صراحة أداء الحكومة الإسرائيلية فى الحرب، إلى جانب 27 دولة - فى مقدمتها فرنسا وكندا وبريطانيا - شكّل لحظة مفصلية. بيان لم توقّع عليه لا ألمانيا ولا الولايات المتحدة، لكنه أحدث عاصفة سياسية وإعلامية فى فيينا، وغضبًا رسميًا فى تل أبيب، وعلى لسان سفيرها فى النمسا.
تكمن أهمية الموقف النمساوى فى رمزيته، لا فقط فى مضمونه. وكما قال دبلوماسى عربى رفيع لـ«الشروق»: «فى بلد يضع أمن إسرائيل فى صلب عقيدته السياسية، فإن توقيع وزيرة الخارجية على بيان ينتقد تل أبيب خطوة استثنائية، إن لم تكن مفصلية».
تصرّ الوزيرة النمساوية ماينل-رايسنجر على أنها لا تتخلى عن أمن إسرائيل، لكنها ترفض أن يُستخدم هذا الأمن كذريعة لتجاهل الوضع الكارثى للمدنيين فى غزة.
• • •
المفارقة أن هذا التحول لا تقوده حركات يسارية تقليدية بل جيل جديد من الساسة والدبلوماسيين الأوروبيين. وزيرة الخارجية النمساوية، التى تقود تيارا ليبراليا وسطيا (NEOS)، تمثل هذا التغيير، المدعوم من حكومتها، فلم يتراجع عنه المستشار النمساوى المحافظ والرصين كريستيان شتوكر، ودعمه نائب المستشار الاشتراكى الديمقراطى، أندرياس بابلر.
وكذلك فعل 130 دبلوماسيًا شابًا فى وزارة الخارجية الألمانية دشنوا مجموعة داخلية نادرة أطلقوا عليها «المعارض المخلص» (Der loyale Widerspruch)، مطالبين بسياسة خارجية أكثر صرامة تجاه إسرائيل، كما كشفت مجلة دير شبيجل (24 يوليو 2025).
ونوهت المجلة إلى أن وجود مثل هذه المجموعة يعد أمرًا غير مألوف داخل الخارجية الألمانية، لكنها قالت إن الأسابيع الماضية شهدت تزايدًا فى الدعوات إلى ضرورة تبنى موقف أكثر صرامة من قبل الحكومة برئاسة المستشار فريدريش ميرتس تجاه حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو فى ضوء التطورات فى غزة. وفى خطوة لافتة، أعلنت الحكومة الألمانية عزمها تسيير جسر جوى إنسانى إلى غزة، فى مؤشر على أن المواقف السياسية بدأت تُترجم إلى إجراءات ميدانية، ولو بشكل حذر ومدروس.
هذا التململ الأخلاقى داخل مؤسسة ألمانية سيادية تعتبر دعم إسرائيل من ثوابتها، يمثل تطورًا غير مسبوق. وكما قالت وزيرة التنمية الألمانية ريم العبلى-رادوفان (فى 22 يوليو 2025)، فإن امتناع ألمانيا عن توقيع البيان الدولى الأخير «غير مبرر»، داعية إلى نهج «أكثر إنسانية».
• • •
الصور القادمة من غزة حوّلت الخلاف السياسى إلى صدمة إنسانية: طوابير مذلة للطعام، انهيار المنظومة الصحية، وأطفال يعانون من سوء تغذية حاد. تقرير حديث لـ«أطباء بلا حدود» كشف عن تضاعف حالات سوء التغذية بين الأطفال فى غضون أسبوعين فقط.
وفى هذا السياق، فإن ما تفعله وزيرة الخارجية النمساوية الشابة ليس شذوذًا، بل انعكاسا لاتجاه أوسع. وكما يلاحظ مراقبون كثر فإن الجيل الجديد من المسئولين الأوروبيين «لا يرى تعارضًا بين الدفاع عن حق إسرائيل فى الوجود وانتقاد حكومتها عندما تتجاوز القانون الإنسانى». إنهم يؤمنون بأن التحالف الصادق لا يُقاس بالصمت، بل بالقدرة على قول الحقيقة الصعبة.
وإن كان البيان النمساوى وتحرك الدبلوماسيين الألمان مفاجئًا، فإن الخطوة الفرنسية جاءت أكثر جرأة: الرئيس إيمانويل ماكرون أعلن عزمه الاعتراف بدولة فلسطين رسميًا فى الخريف المقبل، فى تحول قد يعيد صياغة الموقف الأوروبى بالكامل. خطوة ماكرون لا تزال رمزية من الناحية الدبلوماسية، لكنها تعكس ضيقًا متزايدًا فى باريس والعواصم الغربية من سياسة الأرض المحروقة التى تنتهجها حكومة نتنياهو.
• • •
لقد أصبحت إسرائيل، بعدوانيتها المفرطة، تدفع حتى أقرب حلفائها إلى مراجعة مسلماتهم. فلم تخسر الدعم الكامل للنمسا أو ألمانيا فجأة، لكن ممارساتها هى من أجبرت حلفاءها على التغير. السؤال الآن: هل سيكون هذا التغير لحظة عابرة فى خضم العاصفة أم أننا أمام بداية لمرحلة أوروبية جديدة تُعيد تعريف العلاقة مع إسرائيل؟
فى الحالتين، المؤكد أن الصمت لم يعد ممكنًا.