أيامي التونسية - جميل مطر - بوابة الشروق
الأربعاء 25 يونيو 2025 1:55 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

ما توقعاتك لمعارك إسرائيل مع إيران؟

أيامي التونسية

نشر فى : الثلاثاء 24 يونيو 2025 - 6:45 م | آخر تحديث : الثلاثاء 24 يونيو 2025 - 6:45 م

 

حكايتى مع تونس طويلة وناعمة وصافية صفاء سماء الربيع التونسى، تخللتها أيام عاصفة ومطيرة ولكنها أيام الاستثناء الذى يثبت القاعدة. حكايتى كانت من جزءين الأول منهما قصير ومثير والثانى طويل وممتع ومثمر. المثير فى الجزء الأول لقاؤنا، هيكل وأنا، مع الرئيس الحبيب بورقيبة فى مكتبه بقصر قرطاج. كان هيكل قد اختار القيام بزيارات لرؤساء الدول العربية لقياس حجم التغيير الطارئ على نمط أفكارهم نتيجة حرب العبور التى أسفرت، بين ما أسفرت عنه وهو كثير، عن ارتفاع استثنائى فى أسعار النفط وبالتالى عن التغير المحتمل فى سياساتهم الخارجية. غبت عن تونس، بعد هذه الزيارة، سنوات قليلة لأعود إليها وفى العزم أن تكون العودة ممتدة إن سمحت كل الظروف.

• • •

عدت منفردا إلى تونس فى الجزء الثانى من حكايتى. أنزلنى الأصدقاء بفندق يطل على البحيرة. أذكر أننى اتصلت بزوجتى فى القاهرة أستعجل حضورها. حضرت وبالفعل لم تتحمل الإقامة فى فندق البحيرة وانتقلنا معا إلى فندق آخر على شاطئ ضاحية آميلكار. ومن هناك بدأ السعى لتأجير بيت فى منطقة الضواحى وبالفعل توفقنا واستقر الرأى على بيت فى شارع لعله الأجمل والأهدأ والأنقى مناخا فى كل العاصمة بضواحيها. قضينا فيه سنوات خمسة أو ما يزيد بشهور.

• • •

كانت ابنتنا فى السابعة من عمرها عندما نزلنا بضاحية قرطاج، أظن، بل أثق تماما، أنها قضت فى هذه البقعة أحلى سنين عمرها. ضم  الشارع الذى نقيم فيه أشجار نخيل لم أشاهد لها مثيلا فى جمالها وعنفوانها فى رحلاتى إلى إفريقيا وأمريكا الجنوبية وساحل أمريكا الغربى وولاياتها الجنوبية. ميزته  الكبرى التى جعلت السكن فيه مرغوبا أو مفضلا كانت فى كونه شارعا مغلقا فى نهايته. كان بالفعل مغلقا بشريط قطار الضواحى الناقل للركاب بين شارع الحبيب بورقيبة فى وسط المدينة وضاحية المرسى مرورا ببعض الضواحى المشتغلة بصيد الأسماك وميناء قديم فى النشأة والتاريخ. يمر أيضا بمحطات قرطاج، وهذه المحطات كانت لخدمة قصر الرئاسة ومنطقة الآثار التاريخية وسفارة أو أكثر وضيوف مهرجان قرطاج الغنائى وضيوفى.

• • •

سعدت لسعادة أهل بيتى باختيارنا بيت للسكن فى هذا الشارع. كانت ابنتى، وهى ابنة الثامنة أو التاسعة تمشى على قدميها إلى ومن مدرستها الواقعة فى آخره، أى عند سور القطار. عشت سنواتنا التونسية مطمئنا إلى أن ابنتى وأمها فى أمان كامل خلال ساعات عملى وسفرى. كل الجيران فى شارعنا حماة بالتطوع أو بالعرف والتقاليد. أبهرنى وأبهر زوجتى مستوى تعليم اللغة العربية نطقا وكتابة حتى جاء يوم عادت فيه الابنة باكية لأن مدرسة اللغة العربية عاقبتها على خطأ فى الإملاء بالضرب بالعصا على أصابعها. توجهت أمها فى اليوم التالى إلى المدرسة لتشكو المعلمة وتطالب بترضية للطفلة خوفا عليها من عقدة نفسية. رفضت المديرة.

• • •

تعودت الطفلة خلال سنوات إقامتنا فى قرطاج أن تمر على أسوار بيوت الجيران تقطف ورق العنب. ذات يوم عادت وهى ممسكة بيد سيدة لا نعرفها. بادرتنا الجارة بالقول إنها إنما جاءت مع الطفلة على أمل أن تحصل من أمها على ما يشبع فضولها. هذه الطفلة تأتى كل يوم لتقطف أوراق العنب، سألتها ماذا تفعل بهذه الورقات لم تجب. جاءت معها إلى بيتنا لتطمئن على أن الطفلة لا تضر نفسها بما تفعله بورق العنب. أظن أنها اطمأنت فى اليوم التالى حين وجدت من يدق باب بيتها وهو يحمل إليها صحنا اصطفت فوق سطحه صفوفا من ملفوف ورق العنب على الطريقة اللبنانية.

• • •

كنت أعود بعد ساعات العمل فى شارع خير الدين لأجدها فى انتظارى على مدخل جراج البيت لتخفف عنى بعض أحمالى من الورق، ولكن تركيزها أراه معلقا بما فى اليد الأخرى. تعودت أن أمر فى طريق عودتى إلى منزلى بفرن يخبز الخبز الفرنسى. أنتظر دقيقة فى السيارة ليأتى ناحيتى صاحب المخبز يحمل رغيفين وعلى وجهه ابتسامة حلوة وعلى لسانه دعاء بالشفا والصحة. تستقبلنى فتاتى فى البيت لتحمل عنى الرغيفين وكل منهما تقريبا فى طول قامتها وعلى وجهها ابتسامة ساخرة أو متوعدة، وقد اكتشفت أن أحدا قد التهم رأس الرغيف وهو ساخن. بقيت حتى يومنا هذا، أى بعد حوالى أربعين عاما، أعترف لها أن هذه الرءوس التى انهلت عليها يوميا بمتعة فائقة خلال الطريق من المخبز القريب كانت الأطيب مذاقا ورائحة من أى أكلة فاخرة. أعترف أن أشياء كثيرة ما أن ألمسها أو أشم رائحتها أو أتذوق طعمها إلا وتذكرنى بتونس، ولكنى أخص باعترافى رأس «الباجيت» المخبوز هناك والمتغلب دائما طعما ورائحة حتى على قرينه المخبوز فى فرن باريسى كثيرا ما كنت أمر عليه عامدا متعمدا فى زياراتى المتقطعة لعاصمة النور والفنون والجمال.

• • •

كانت أسعد أوقاتنا فى أيام العطلات رحلاتنا الوجيزة إلى منطقة تلال وغابات جامارات. هناك جربت طفلتنا ممارسة هواية معقدة. كانت تصر على أن ننتزع من شجيرات الصبير ثمار التين الشوكى. استجبنا مرارا وانتهينا إلى أن صرنا نصطحب معنا قفازات وسكاكين حامية وجاكتات بلاستيكية. وفى الصيف لم يكن أمامنا غير فندق أميلكار القريب من البيت.  هناك قامت صداقة وطيدة بين الطفلة وصلاح ماميش صديقى وزميلى فى العمل عاش بعدها سنوات يتصل بى من تونس أو القاهرة ليطمئن عليها.

***

هناك أيضا تعرفت على عديد التونسيين والتونسيات ونشأت صداقات كانت خير معين لى فى مستقبل الأيام. بفضلها تعلمت ما لم أكن أعلم عن تونس وما لم أتعلم، وهو كثير جدا ويستحق أن أعتز به.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي