ليسوا مخربين، وليسوا مقصرين أو مهملين، ليسوا من أعداء الوطن أو معارضى النظام. هم فى أكثريتهم المطلقة متواضعو الأداء. أتحدث عن كل هؤلاء الذين يتولون مسئولية قطاعات لا تنتج الإنتاج الأمثل، وإدارات حكومية لا تؤدى مهامها على الوجه الأكمل، وخدمات لا تلبى رغبة الجمهور فى حياة أفضل. أتحدث بخاصة عن هؤلاء الذين يعرفون ولكن لا يفهمون.
•••
قابلت، خلال حياة ممتدة، كثيرين أتيحت لهم الفرص ليقيموا فى دول أجنبية. بعضهم تغربوا للعمل وآخرون للدرس، وعدد لا بأس به لمرافقة أزواج وزوجات. لفت نظرى فى حالات عديدة أن نسبة كبيرة من هؤلاء عادت بفهم ضئيل جدا للشعوب التى عاشت بينها. سمعتهم يتحدثون ككل العارفين عن تفاصيل مواقع فى المدن التى سكنوها، وعن أسعار الخضراوات واللحوم وإيجارات المساكن ووسائل النقل. تحدث المتخصصون منهم عن تشكيل الحكومة وأسماء الوزراء وفضائحهم وقضايا الفساد الشهيرة، وعن أفلام السينما والممثلين والأغانى الجديدة. صعقت مرة، بل مرات، عندما سمعت أفرادا من هؤلاء، وقد عادوا من بلاد الغربة ليتولوا مناصب عظمى ووظائف كبرى، يتحدثون بلهجة الواثق من معلوماته فى نواحى تخصصه العلمى أو المهنى، ولكن أيضا بلهجة السائح أو الزائر الذى لم يحاول «فهم» المجتمع الذى عاش فيه ولم يختلط بأهله، ولم يمارس ثقافاته، ولم يتفاعل مع أفراحه وأحزانه وربما لم يحاول إتقان لغته أو على الأقل النطق بها إلا فيما ندر.
•••
أتفق مع خبراء التعليم الذين يعتقدون أن السبب فى انتشار هذه الظاهرة بين بعض مبعوثينا وممثلينا فى الخارج هو نظام التعليم المصرى، الذى يركز على المعلومات على حساب الفهم. وقد تنبه علماء تربية أمريكيون إلى أن الاهتمام الفائق بدراسات التخصص التكنولوجى والعلمى الدقيق يأتى عادة على حساب الاهتمام بالفهم. أحدهم اتهم الكمبيوتر بأنه صار القدوة للطالب. يريد الطالب أن يراكم فى عقله المعلومات كما يراكمها الكمبيوتر. إجابة أى سؤال وحل أى معضلة هى حسب رأيه مسئولية الكمبيوتر، لأنه داخل هذا الجهاز تجتمع كل المعلومات.. كل المعرفة.
•••
أعجبنى كاتب وصف الإنسان العارف بكل شىء، والمتراكمة فى عقله أو فى مكتبه أوفر المعلومات عن موضوع بعينه أو عن شخص أو عن دولة من الدول أو تنظيم إرهابى، بأنه كالإنسان الذى يقرأ جميع العروض التى نشرت عن كتاب حديث الصدور، ولكنه لم يقرأ بنفسه صفحة واحدة فى هذا الكتاب. يستطيع أن يدعى أنه يعرف عن الكتاب ما لم يعرفه شخص آخر، ولكنه لا يستطيع فى حوار جاد معه أن يدعى أنه فهم الكتاب.
•••
أشاهد خبراء يتكلمون فى برامج «الكلام المعلب» التى تكاد لا تخلو منها قناة من القنوات فى العالم العربى. لا شك أن بعضا من الخبراء لديه معلومات يستخدمها بوفرة وعناد، وأحيانا بتحد ليغطى عجزه الفاضح فى فهم القضية التى استدعى أو حضر ليتكلم عنها. أقارن أحيانا، رغما عنى، بين برامج كلام تذاع عادة فى أمريكا يوم الأحد وبرامج يومية تذاع فى التليفزيونات الناطقة بالعربية، فأعجب من التفاوت. هنا يركزون على إغراق المشاهد بالمعلومات بغرض فرض موقف وهناك يحاولون جذب اهتمام المشاهد بالإفاضة فى الشرح والتوضيح بغرض إقناعه.
•••
أعجبتنى محاولة جرت مع مسئول لإقناعه بأهمية التركيز على عنصر الفهم فى نظام التعليم المصرى. طلبت منه المتخصصة فى شئون التربية أن يتخيل رد فعل شخصين لمنظر الشمس وهى تغيب. أحدهما لديه معلومات عن الظاهرة واحصائيات وجداول بمواعيد الغروب فى جميع الأقطار والجهات وعديد المعادلات الرياضية وألوان الغروب. هكذا يتعامل رجل المعلومات مع الظاهرة. يتعامل كما يتعامل الكمبيوتر، أو بمعنى أدق كما يتعامل معها شخص فاقد للبصر متبلد الحس محروم من نعم التذوق واللمس.
الآخر، بدأ بأن وصف الغروب بقرص أصفر ينزلق بانضباط شديد إلى أسفل ليبتلعه الأفق بعد قليل. يحدث الانزلاق نحو الاختفاء لأن الأرض تدور حول محورها وحول الشمس. انتهى بأن الغروب يحسب على المشاهد وقته ولا يكف عن تذكيره به، يذكره أيضا بالمسافة التى تفصله عمن يحب، وبالحكمة الكامنة فى أعماقنا والقائلة بأن من نحب غير باقٍ معنا إلى الأبد، فرحيله قادم ولن يتخلف عنه.
الاثنان مختلفان، الفرق بينهما كالفرق بين المعرفة والفهم. الإنسان فى المعرفة كالكمبيوتر أعمى لا يرى، جامد وبارد لا يحب، وأبدى لا يموت. بمعنى آخر إنسان المعرفة غير قادر على التخيل ولا يفكر ولا يشعر.. إنسان المعرفة «طفيلى»، بمعنى أنه يعتمد اعتمادا مطلقا ولا نهائى على مصادر معلومات خارجية أكثر من اعتماده على مكوناته الذاتية مثل عقله وحسه وعواطفه.
•••
الإنسان الآخر، الإنسان الفاهم، أو إنسان الفهم، يعتمد على عناصر ثلاثة لا يستغنى عن أى منها، هى الخيال والفكر والشعور. فبالخيال استطاع تقريب واقعة الغروب فى شكل قرص أصفر ينزلق، وبالفكر والعلم عرف أن الأرض تدور حول الشمس وحول نفسها، وبالشعور تطرق إلى مسائل حسية ومسائل وجودية ومسائل عاطفية عديدة. لن يعرف الكمبيوتر مثلا، ولن «يفهم» إنسان المعرفة، أننا كنا ننظم القصائد فى وصف الحب ساعة الغروب.
•••
نظامنا التعليمى، فيما أعلم وقيل لى، لا يمكن أن ينتج إلا نساء ورجالا من النوع الأول. يحفظون ولا يفكرون ولا يناقشون ولا يتخيلون ولا يشعرون. هم فى أحسن الأحوال مثل أجهزة الكمبيوتر.. أبديون ومرتبطون دوما بنصوص ومتون، وفى أسوأ الأحوال مثل أجهزة الكمبيوتر.. بصلاحية محدودة وأداء غير منتظم وهوية مرتبكة.