تدوس بقدمك على نملة فتفركها، أو تصعق بكف يدك ناموسة فتفتك بها أو تصطاد ذبابة لتقتلها، هل فكرت فى أى مرة فركت نملة أو فتكت بناموسة أو قتلت ذبابة أنك حرمتها حقها فى الحياة؟ كان بيننا ونحن صغار أطفال يتألمون لحشرات أو حيوانات يتصورون أنها تتألم. وكان بيننا أطفال يتسلون بتعذيب الحيوانات الأليفة وينقلون إليها عذاباتهم ومعاناتهم على أيدى أهاليهم. فى ذلك الزمن البعيد لم تكن مسألة حقوق الإنسان مطروحة إلا فى وثائق لا نراها وقد لا نسمع عنها، فما بالك بحقوق حيوان.
•••
قرأت أخيرا عن دراسة أجريت فى جامعة غربية أثبتت أن الحيوانات تتألم وتتعذب وتتعاطف مع من يتألم من البشر أو يتعذب. تشعر بآلامه فتحزن وتكتئب إذا اكتأب وتتودد إليه إن بدت عليه علامات تعب. عاد بى العقل المتسائل دائما إلى أسئلة راودته كثيرا ولا تزال حائرة تبحث عن إجابات، أسئلة تشغلنى منذ فترة، وبالدقة، منذ أن أصبح الإرهاب والتعذيب والقمع والقتل والذبح حديث كل يوم وكل الناس. وجدت نفسى أسألها، كيف تصنفين عملية قام بها شخص أمسك بعلبة ريد المضاد للحشرات الطائرة أو الزاحفة وراح يرش بها خصومه وخصومها، بعشوائية وغيظ وروح انتقام بادية على وجهه وفى تصرفاته، فقتل المئات بل الآلاف منها فى مدة لا تزيد على دقائق معدودة. هل يجوز تصنيفها ضمن أعمال الإبادة الجماعية، أم تحت عنوان جرائم عادية، أو جرائم حرب، أو حالات دفاع عن النفس والممتلكات وحرمات البيوت.؟ توقعت إجابة تستبعد هذا التصنيف باعتبار أنه مخصص لعلاقات الإنسان بأخيه الإنسان.
•••
كم كانت دائما مثيرة للتفكير والترفيه فى آن واحد، مشهد نملة ماتت تحت قدم طفل أو فرع شجرة. ما هى إلا ثوان وتكون جحافل النمل قد خرجت من ثقوب فى الجدران والأشجار واحتشدت حول النملة الراقدة فى سكون الموت. جماعة تركض فى هذا الاتجاه وأخرى فى الاتجاه المعاكس، وفجأة ينتصب الموكب. عدد من جنود النمل، أو كبار ضباطه، يحملون النملة القتيلة ويمشون مع مئات المشيعين فى الموكب الجنائزى المهيب. رأيت المشهد مرارا، رأيته فى طفولتى وشبابى وأراه الآن. لا جديد فيه سوى أننى أصبحت أعتقد أن أمة النمل هذه خرجت تودع قتيلتها ليس كما يودع البشر موتاهم ولكن كما يودعون شهداءهم. يقولون عند البشر، إن الفقيدة ماتت ليعيش شعبها حرا، وأظن أنهم عند النمل، والحشرات عموما، يعتقدون، كالبشر، أنها ماتت وهى تعمل من أجل أن تعيش جماعتها.
•••
أسأل أيضا، هل الموت واحد فى كل زمان ومكان ولدى كل الكائنات؟ لا أظن. ولكنى أعرف أن وقع الموت ليس واحدا. موت نملة واحدة لن يكون وقعه فى جماعتها كوقع موت مجموعة من النمل. أسمع عن أمة قيل إنها غضبت غضبا عارما على مصرع عشرين أو خمسين من أبنائها. أصدق أن الغضب عارم وعام، ولكن أعرف أيضا أن هذا الغضب العام والحزن العارم لا يعادلان ذرة من غضب وحزن أهل كل واحد من هؤلاء القتلى على فقيدهم. مجموع الغضب أو الحزن العام مهما كان صادقا وتلقائيا لا يساوى الكثير إذا قورن بمجموع الغضب أو الحزن المنفرد. ليس كل موت كأى موت.
•••
النملة عضو فى مجتمع، حياتها مفيدة لبقاء الجماعة ورفاهيتها تماما كحياة أى عضو آخر. تبدو النملة لنا، وربما لمخلوق آخر، تافهة وهكذا تبدو لنا حياتها. نخطئ خطأ جسيما. ننسى أن هذه النملة، الضئيلة الحجم، لها أقدام تمشى عليها، وقرون استشعار، وربما أسنان، وأعضاء داخلية فى جسدها النحيل. كيان كامل. وبالتالى لا يمكن ولا يجوز القول بأن هذه النملة مخلوق تافه تعالوا ندوسها، تماما كما أنه لا يجوز القول إن هذا الإنسان الفقيد أو المريض أو المتمرد أو المعارض، لا يساوى شيئا فى حد ذاته، تعالوا نذبحه أو نسجنه أو نعذبه. كلاهما يساوى الكثير جدا عند جماعته وعشيرته وأهله. كلاهما وراءه تاريخ طويل يمتد عند النمل ملايين السنين وعند بنى الإنسان آلاف أو مئات الآلاف، كلاهما لديه أهداف يعيش من أجلها وكلاهما ترس فى عجلة حياة لها مضمون وغرض وتقوم على قواعد وأصول.
•••
بعضنا يتفاخر بقوته. ومن هذا البعض من يتفاخر بقدرته على قتل كائن آخر. صحيح أنه قوى وصحيح أنه قادر على القتل، ولكنه بكل تأكيد لا يملك القوة الكافية ولا القدرة اللازمة ليخلق كائنا آخر محل الكائن الذى قتل. أنت تقتل نملة أو ناموسة ببساطة وبرودة أعصاب وهدوء وربما بتشفى ورغبة فى الانتقام. ولكنك، ومهما أوتيت من عظمة ووجاهة وقوة وقدرة، لن تتمكن من «خلق» إنسان آخر غير الذى قتلت، ولا حتى ناموسة شرسة أو نملة ضئيلة.
•••
يتألم الواحد منا أحيانا إذا داس بقدمه على نملة أو سفك دم ناموسة، ولكن لن تشعر بشديد الألم إذا جاءت أنابيب المبيدات تنفث بخارها لإبادة جحافل هذه الحشرات. أفراد أعرفهم يغضبون عند سماع أخبار عن قتل الأفيال، وبيوتهم تزينها تماثيل من العاج.
•••
المؤكد، وهذه مسئولية الطبيعة، هو أنه مادامت هناك حياة فهناك موت. النمر المفترس القبيح لن يمتنع عن قتل الغزالة الرشيقة الناعمة، إلا إذا مات. لن يجتمع حيوان مفترس وحيوان أليف فى أمان فى مكان واحد، إلا إذا كان هذا المكان غرفة فى متحف تزين جدرانه رءوس حيوانات محنطة، حيوانات كانت فى حياتها أليفة مع حيوانات كانت فى حياتها متوحشة، هنا فى هذه الغرفة من غرف المتحف تعيش هذه الحيوانات فى طمأنينة وألفة ووئام. حيوانات ماتت وشبعت موتا.