نشرت جريدة الحياة اللندنية مقالا للكاتب العراقى المتخصص فى شئون الطاقة مقالا للكاتب «وليد خدورى» يتناول فيه العقوبات الاقتصادية الأمريكية على فنزويلا وإيران وروسيا وتأثيرها على اقتصادات هذه الدول.
هناك اليوم عقوبات نفطية أمريكية مفروضة على ثلاث دول: فنزويلا، إيران، وروسيا. وتتأثر الصناعة النفطية العالمية بتزايد الخلافات ما بين الدول الصناعية. فالتباين السياسى أصبح علنا ما بين الرئيس ترامب وأوروبا حول عدد من المواضيع، أهمها الانسحاب الفردى للولايات المتحدة من الاتفاق النووى الإيرانى واتفاقية باريس المناخية. كما تترك الخلافات الاقتصادية آثارها السلبية على الأسواق، كما فى تعثر المفاوضات التجارية الأمريكية ــ الصينية. وهناك مخاطر بريكست المستقبلية.
بدأت آثار مقاطعة واشنطن للنفط الفنزويلى تظهر فى السوق الأمريكية بسرعة. فقد انخفضت الصادرات الفنزويلية للولايات المتحدة من 230 ألف برميل يوميا إلى أقل من 120 ألف برميل يوميا خلال الأسبوع الأول من فبراير الحالى، مقارنة بنحو 780 ألف برميل يوميا خلال الفصل الرابع من 2018. شكل انخفاض الصادرات النفطية الفنزويلية للولايات المتحدة، ضربة موجعة للاقتصاد الفنزويلى الذى كان منهكا خلال الفترة الماضية، ولا يزال حتى الآن، بمحاولة تأمين السلع الأساسية للمواطنين من غذاء ودواء. وأدى انخفاض الصادرات النفطية القياسى إلى الولايات المتحدة إلى استفحال التضخم الاقتصادى فى البلاد والهجرة الجماعية إلى البرازيل وكولومبيا المجاورتين. تحاول شركة النفط الوطنية الفنزويلية (بى دى فيسا) جاهدة التعامل مع المقاطعة بفتح أسواق جديدة لنفطها فى روسيا والصين والهند. اذ تستعمل الصادرات النفطية لتقليص الديون. كما تصدر نفط «أورينوكو» الثقيل جدا للاستعمال مباشرة فى محطات الكهرباء الهندية.
لا تزال الصورة السياسية غامضة فى فنزويلا. وهذا يعنى بدوره غموض تطورات الصناعة النفطية هناك. فقد أنتجت فنزويلا نحو 1.2 مليون برميل يوميا فى شهر يناير الماضى. ويتوقع المراقبون فى حال تدهور الاستقرار السياسى، أو حتى استمرار النزاع الرئاسى الحالى، فإن الإنتاج سينخفض إلى نحو 300 ألف برميل يوميا، بالذات فى الوضع المنهك الذى تجد فيه «بى دى فيسا» نفسها. ومعدل الإنتاج هذا لا يكاد يكون كافيا للاستهلاك الداخلى، ناهيك عن الصادرات.
وهناك على الطرف الآخر من المحيط الأطلسى، بداية تأفف واحتجاجات مستمرة تتمثل بتبنى دول السوق الأوروبية مواقفا مستقلة ومتباينة عن سياسة التغريدات اليومية للرئيس ترامب. وتصاعدت الخلافات فى مواقف بعض الدول الأوروبية، ألمانيا، فرنسا، وبريطانيا، من الانسحاب الأمريكى الانفرادى من الاتفاق النووى الإيرانى. فالدول الأوروبية تريد حماية شركاتها من هيمنة سياسة خارجية غير متفقة معها، بالإضافة إلى تقليص الاعتماد على النظام المالى الأمريكى فى التجارة والصناعة البترولية العالمية. أنفقت الدول الأوروبية ما معدله نحو 300 مليار يورو سنويا (338 مليار دولار) لاستيراد الطاقة خلال السنوات الخمس الأخيرة.
تسربت معلومات من بروكسل أخيرا عن مبادرة للمفوضية الأوروبية فى جس النبض لإمكانية استعمال اليورو بدلا من الدولار للعملة المستعملة فى تقييم قيمة الوقود وفى استعمال اليورو بدلا من الدولار لنفط الإشارة (برنت). كما هناك محاولة أوروبية أخرى لجس نبض وسائل الإعلام النفطية المتخصصة لإمكانية التحول إلى استعمال اليورو بدلا من الدولار فى نفط الإشارة، وإمكانية تنفيذ هذا التغيير، وما هى العقبات التى ستواجهه. يكمن الاهتمام الرئيس للسوق الأوروبية فى صناعة وتجارة الغاز. فهو الوقود الأكثر استعمالا فى أوروبا نظرا لميزاته البيئية من قلة انبعاثات ثانى أكسيد الكربون منه. هذا، ولا بد من التنويه، أن هذه المحاولات لتغيير عملة الصناعة البترولية العالمية من الدولار إلى اليورو لا تزال فى مراحلها الأولية. وفى حال الاستمرار بدراسة ومناقشة هذا الأمر، فمن المتوقع أن تأخذ المفاوضات وقتا طويلا قبل اتخاذ أى قرارات حاسمة.
اتخذت المقاطعة الأمريكية الأخيرة للنفط الإيرانى تجربة مختلفة عن سابقاتها من قرارات المقاطعة. فقد غرد الرئيس ترامب عند الإعلان عنها بأنها ستكون الأشد قساوة. كما توعد الرئيس الأمريكى الدول المستوردة للنفط الإيرانى بأشد العقوبات فى حال مخالفتها للمقاطعة الأمريكية. وطالب ترامب أوبك وحلفاءها بزيادة الإنتاج استعدادا لخفض الصادرات الإيرانية، كخطوة احترازية لكى لا ترتفع الأسعار. ونفذت معظم الدول المصدرة هذا الطلب، مما أدى إلى تخمة فى المخزون العالمى. لكن تفاجأت الدول المصدرة ومعها الأسواق العالمية بتغريدة ترامب عشية بدء الحصار بأن واشنطن منحت إعفاءات سخية للدول التى تستورد الكميات الأكبر من الصادرات الإيرانية وذلك بإعفائها من العقوبات خلال النصف الأول من 2019. ومعنى هذا أن هذه الدول (اليابان والصين والهند وكوريا الجنوبية) تستطيع الاستمرار بنفس معدلات الاستيراد دون أى عقوبات خلال الأشهر الستة الأولى من 2019، لكن بشرط تقليص الاستيراد تدريجيا لكى لا تستورد أى نفط إيرانى فى النصف الثانى من العام. وكرد فعل لهذه الإعفاءات المفاجئة، بادرت أوبك وحلفاؤها فى تبنى سياسة جديدة تقضى بتخفيض الإنتاج لتقليص التخمة فى الأسواق. لكن، من جانبها، كانت قد ارتفعت الأسعار بعد التغريدة الأولى المعلنة للحصار وارتفعت الأسعار بالفعل إلى نحو 86 دولارا. لكن تغير منحى الأسعار، بعد تغريدة الإعفاءات. فانخفض السعر إلى نحو 50 دولارا، وكاد أن يتدهور السعر إلى مستويات دنيا، لولا إسراع أوبك وحلفائها بتخفيض الإنتاج. فاستقر السعر خلال الأسابيع الماضية نحو 60 ــ 67 دولارا. وتشير التوقعات إلى أنه من الممكن استقرار الأسعار خلال النصف الثانى من 2019 فى نطاق 60 ــ 70 دولارا إثر التقليص المهم فى المخزون العالمى.
ورغم أن الدول المستوردة لأغلبية الصادرات النفطية الإيرانية، قد أعفيت من عقوبات المقاطعة واستمرت بالاستيراد الضخم من إيران، فقد انخفضت الصادرات الإيرانية رغم ذلك إلى نحو 1.5 مليون برميل يوميا بدلا من معدله سابقا 2.3 مليون برميل يوميا. والسبب هو الاستيرادات من الدول التى لم تشملها الإعفاءات. هذا وقد تأثرت إيران سلبا من عقوبة أخرى للمقاطعة الأمريكية، وهى عدم إمكانها التعامل بالدولار خلال هذه الفترة، الأمر الذى قلص من تجارتها الخارجية.
فرضت الولايات المتحدة عقوبات نفطية (استثمارات ومعدات تقنية) على روسيا إثر النزاع على أوكرانيا والاحتلال الروسى للقرم. لكن من الواضح أن الإنتاج والصادرات الروسية تواصل تحقيق أرقام قياسية رغم هذا الحصار (فاق الإنتاج الروسى أخيرا 11 مليون برميل يوميا). حاولت العقوبات الأمريكية تهديد نمو صناعة النفط الروسية التى كانت تخطط للتصدير من القطب الشمالى. وقرر الكرملين بما أن هذه العقوبات سيطول أمدها وقد تتكرر، فقرر تأسيس صندوق لتمويل الشركات العاملة فى القطب الشمالى ودعمها فى الأبحاث والإنتاج العلمى. وبالفعل، استطاعت شركة نوفاك الروسية أخيرا تصدير أول شحنة غاز مسال من القطب الشمالى وشحنه إلى الصين، بفضل هذه الجهود.
تدل التجارب على أن للمقاطعة آثارا مدمرة على شعوب الدول المصدرة، بالإضافة إلى آثارها السلبية على الاقتصاد المحلى، نظرا لاعتمادها الكلى على الصادرات النفطية، إذ يكثر التهريب وعصاباته والفساد الذى يلحق به. كما تزداد معدلات التضخم إلى مستويات قياسية، مما يؤدى إلى هجرات جماعية بالذات للفئات المهنية والطبقات الوسطى. وهذا ما حدث فى العراق خلال عقد التسعينيات، وما يحدث حاليا فى إيران وفنزويلا.
الحياة ــ لندن