نهضت كوريا الجنوبية، وكانت فى نهضتها لغزا محيرا. نهضت من دولة فى الخمسينيات من القرن الماضى نصيب الفرد فيها من الدخل القومى ٦٤ دولارا، أى أقل من دخل المواطن الصومالى، إلى دولة ترتيبها الآن الرابعة عشر فى قائمة الدول المتقدمة. اجتهدنا واجتهد آخرون بحثا عن «عامل مفتاح» فتح لكوريا طريق النهضة، واختلفنا. قيل بين ما قيل إن أمريكا أرادتها نموذجا ناجحا وبارزا للرأسمالية تقاوم به الشيوعية الماوية الزاحفة من الصين والشيوعية الستالينية الزاحفة من كوريا الشمالية، أرادتها نموذجا فقدمت لها من التسهيلات والمعونات والأسواق ما لم تقدمه لدولة نامية أخرى.
قيل أيضا، صحيح أن لأمريكا فضلا، ولكن كان لسلطوية نظام الحكم الدور الرئيس فى التحشيد وحماية المشروعات الجديدة من المنافسة والاحتجاجات ضد الظلم الاجتماعى الذى مارسته رءوس الأموال الجديدة. وقيل على لسان علماء هنود ومن أمريكا اللاتينية، إن وجود عدو خارجى شرط كاف أحيانا لقيام اقتصاد قومى قوى، أو بالأحرى هو الدافع الأمنى الذى يحفز القيادة السياسية والشعب ليقيما مصانع سلاح، ويجمعا الأموال ويحشدا الطاقات اللازمة لثورة تصنيعية ونهضة اقتصادية. حدث شىء من هذا مع محمد على فى مصر والميجى فى اليابان وستالين فى روسيا ويحدث الآن فى الهند. قيل الكثير، ورغم كل ما قيل لم تتوقف الاجتهادات، ولم يتوقف سعينا للفهم، أملا فى أن نعثر على تجربة نحاكيها أو على مفتاح يفتح لنا بابا من أبواب عوالم النهضة والتقدم.
•••
خلال السعى للفهم عثرت على اجتهاد لم يخطر يوما على بالى، ولعله لم يخطر على بال أحد خارج الكوريتين، إلا ربما الآنسة باتريشيا ماركس التى قامت بزيارة إلى كوريا الجنوبية بغرض التعمق فى فهم ظاهرة اعتبرتها آنذاك مثيرة. تقول باتريشيا إن الكوريين يفخرون بأن بلدهم يحتل المرتبة الأولى فى العالم فى قائمة الدول التى ينشط فيها قطاع «الجراحة التجميلية». أنا شخصيا لم اهتم كثيرا بتفاصيل المقال الاستقصائى الرائع الذى سجلت فيه وقائع مثيرة عن نشاط هذا القطاع، ولكنى ركزت اهتمامى على ايحاءات وسلوكيات مواطنين كوريين مارسن عمليات التجميل، بعضها حفزنى على تبنى فكرة وجود علاقة وثيقة بين نهضة كوريا وانتقالها من دولة شديدة التخلف إلى دولة فائقة التحضر من ناحية وبين «جمال» مواطنيها من ناحية أخرى.
جاء فى التفاصيل غير المباشرة، أى غير المتصلة بقضية النهضة، أن جراحا أمريكيا كان يعمل بالجيش الأمريكى فى كوريا انتهز فرصة إقامته فى كوريا الجنوبية خلال الحرب الكورية ليقنع الكوريات بأهمية إجراء جراحات تجميل فى الوجه، ليصبحن، حسب رأيه، أكثر إثارة للجنود الأمريكيين. وبالفعل وجد إقبالا منقطع النظير من جانب فئة «بائعات الجنس». هكذا يعزون الفضل للضابط الجراح David Ralph Millard فى إطلاق شرارة هذا النوع من النشاط الطبى فى كوريا. وقد بنى السيد ميللارد دعايته على حقيقة أن أكثر الكوريين يعانون من عيب خلقى فى الوجه وبخاصة فى الفك.
•••
تقول بابزيشيا ان أغلب الكوريين، وبخاصة النساء، يعتقدون أن عدم التناسق بين رءوسهم وأجسامهم هى أكثر ما يميزهم عن شعوب كثيرة، فالرأس الآسيوى عموما كبير بالنسبة لبقية الجسم، الأمر الذى يبرز عيوبا أخرى فى الوجه. وبالفعل أقبلت الكوريات اقبالا شديدا على عمليات التجميل، كلهن يطلبن «وجوها أوروبية». ثم اكتشفن بعد فترة من الزمن، أى فى التسعينيات من القرن الماضى ان أعدادا غفيرة منهن صارت تشبه بعضها البعض. الآن يطلبن «وجها بريئا وجسدا مكتملا» حتى صارت شوارع سول العاصمة تكتظ بنساء «الرأس رأس تلميذة فى مدرسة والجسم لامرأة كاملة النضج».
لاحظت باتريشيا أيضا قبل أن تتأكد من أن الفتيات المقبلات على زواج يذهبن إلى عيادات أطباء التجميل ومعهن أمهاتهن. كل أم تطلب وجها يشبه تماما وجه ابنتها العروس. حجتهن أمام الطبيب هى اقناع «العريس» أن عروسه سوف تظل تحمل وجه شبابها عندما تتقدم فى العمر.
•••
انصب اهتمامى، كما ذكرت، على السلوكيات ذات العلاقة بالنهضة، وأهمها مثلا ما جاء على لسان أكثر من طبيب وزبون، من أن التقاليد الآسيوية تفرض ضرورة الاهتمام بالشكل الخارجى. فالآسيوى يهتم بالسلوك الخارجى وملامح الوجه وحركات الجسم أكثر من اهتمامه بروح الإنسان ونواياه. «نحن لا نهتم بماذا تفكر فى داخلك، المهم كيف نراك». من ناحية أخرى، يعيش الآسيوى ويفكر باعتباره عضوا فى جماعة وليس فردا مستقلا أو منفردا. يعيشون جماعة ويأكلون جماعة ويفكرون جماعة. هذه الصفة تكاد تكون مشتركة معنا كمصريين، هم مثلا عندما يتحدث الرجل فيهم عن زوجته يقول «زوجتنا» وبعض رجالنا يطلقون عليها «جماعتنا».
هذا التفكير بصيغة الجماعة جعلهم فى كوريا يعتقدون عن حق فى أن «الفرد الجميل» رصيد للجماعة. يقول أحدهم مثلا«إذا كنت تستطيع أن تبدو أجمل من حقيقتك، فلتفعل ذلك، لأنه أحد أهم واجباتك تجاه الجماعة. الجماعة تحب هذا.. تحب أن تراك فى أبهى صورة وأجمل شكل».
•••
ثم انهم فى تقاليدهم يؤمنون بأن كل فرد فيهم قادر على تغيير مصيره، وفى الغالب يقع التغيير فى سياق رغبة جماعية فى التغيير. إذا استقر رأى الجماعة على التغيير وجب على كل مواطن ان يتغير معها. هذه الجماعة على امتداد أربعين عاما قررت ان تنهض بمستوى جمال أفرادها. قررت أن معنوياتها الجمعية ستكون أفضل لو ارتفعت قيمة الجمال عند الأمة وعند كل فرد فيها.
•••
سوف أصدق أن أمتنا بدأت طريق النهضة، عندما أرى أغلب بناتها وأبنائها وقد وضعوا بين أولوياتهم الاهتمام بجمال الشكل وجلال المظهر.