العقاد عن الشخصية المصرية (2 من 2) - عاطف معتمد - بوابة الشروق
الأربعاء 26 مارس 2025 6:41 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

العقاد عن الشخصية المصرية (2 من 2)

نشر فى : الثلاثاء 25 مارس 2025 - 7:25 م | آخر تحديث : الأربعاء 26 مارس 2025 - 5:32 ص

 رأينا فى المقال السابق الدفاع المستنير للعقاد عن الشخصية المصرية، من خلال تفنيده لخمسة افتراءات أسميناها: رأس الأكاذيب، تاريخ من أفواه الأعداء، افتراء على مصر باسم الكتاب المقدس، إساءة تفسير إسلامى، هجاء المتنبى، والاحتلال الأوروبى.

ونكمل اليوم قراءة رأى العقاد فى الشخصية المصرية من خلال تصفح المقدمة الطويلة التى سطرها فى كتاب «سعد زغلول.. سيرة وتحية».

فى صفحة 18 من كتابه عن سعد زغلول  يصوغ  العقاد تعبيرات تدعم فرضيتى بأنه الأب الشرعى لمفهوم الشخصية المصرية الذى سيظهر بعد عقود لاحقة حين يقول:

«ولعلنا لا نلخص الأمة المصرية فى كلمة أوجز وأصدق وأجمع من وصفها بصفتها الجغرافية التاريخية المتفق عليها، وهى أنها أمة طويلة التاريخ قديمة عهد بالمدنية فى أرض زراعية».

وبهذا الوصف يمكننا فهم الطبيعة المصرية وأخلاق وعادات أهلها، وغرائبها ونقائضها. فالأمة المصرية يقول العقاد:

«ليست أمة بداوة تتوثب إلى الحرب لأنها باب الرزق وطريق السلامة من الجار المعتدى أو الجار المخيف، لكنها أمة حضارة: مستقرة ومعيشة منتظمة تلجأ إلى الحروب حين تلجأ إليها، لأنها ضرورة لا محيص عنها ونكبة لا تستهين بها إلا اتقاء لنكبة أكبر منها، وأصعب عاقبة من عاقبتها». وهى لا تطيع حكامها كما يطيع البدوى زعيمه أو كما يطيع العسكر قائده: إلى الحرب يا رجال فإذا الرجال كلهم على أهبة القتال!

وإنما هى أمة توارثت العقائد والمأثورات جيلًا بعد جيل، وأصبح لها من بعض تلك العقائد تراث تصونه فوق صيانة المصلحة وتغار عليه أشد من غيرتها على المال والثروة، ثم هى أمة ذات أرزاق مطردة ومعيشة مستقلة لا يعنيها صلاح الحاكم كما يعنيها صلاح الأرض والسماء والعوارض والأجواء، فإذا دعاها الحاكم إلى حرب لا تعنيها فذلك شأنه وليس بشأنها وتلك خسارته وليست بخسارتها، أما إذا أصيبت فى عقائدها وموروثاتها. أو ظهر لها الجور على أرزاقها ومرافقها فهناك يستعصى قيادها كأشد ما يستعصى قياد أمة، وهناك تصمد للحرب كما يصمد لها المقاتل المجبول عليها.

الاستسلام والثورة

ثم يمضى العقاد فى تفنيد مسألة الخنوع والاستسلام فيقول:

«لو أحصيت الثورات فى تاريخ مصر القريب لما كانت فى عددها دون ثورات الأمم التى اشتهرت بالتمرد ولم تشتهر بالاستسلام، فقد ثار المصريون على الفرنسيين وثاروا على الترك والمتتركين؛ وثاروا على الإنجليز فى نحو قرن واحد، وكان للعقيدة والموروثات فى معظم هذه الثورات دخل أظهر من دخل المصلحة والمرافق القومية أو الفردية».

ثم يكتب العقاد رأيًا سيستعين به جمال حمدان وينقله عنه فى عام 1984 فى الجزء الرابع من شخصية مصر، يقول العقاد فى عام 1936 عن الطبيعة المحافظة التى لا تخلو من ثورة وتمرد:

«ونحن لا نستطيع أن نفهم كيف يكون المصرى محافظًا شديدًا فى المحافظة ثائرًا متأهبًا للتمرد إلا إذا فهمنا حبه للأسرة وحبه من أجل ذلك للموروثات والتقاليد، فهو محافظ كما تحافظ جميع الأسرات على تراثها، وهو من أجل المحافظة على التراث مستعد للثورة أبدًا لصيانة موروثاته وتقاليده».

وقد يبدو غير معقول فى ثورته وهياجه لأن العهد بالناس أن يستغربوا الثورة من المحافظين المقلدين، ويزيدهم استغرابًا لها ألا يجدوا تفسيرًا لها من خوف الضرر على المصالح والمنافع. فيقولون مدهوشين: «أمثل ذلك الشعب الوادع المستقر يثور هذه الثورة لمثل هذا الضرر اليسير أو لغير ضرر على الإطلاق؟ والواقع أن الذى يثور هذه الثورة غالبًا هو المحافظ المغرق فى المحافظة، لأنه لفرط محافظته ينسى المصلحة فى سبيل العادات ولطول الكبت أثر فى هذا الجنوح إلى التمرد كلما سنحت الفرصة التى تنطلق فيها الغرائز وتخرج فيها على القيود».

الثابت والمتغير

عاد حمدان إلى العقاد بعد نصف قرن من توصيف الشخصية المصرية، هل ما قاله العقاد فى ثلاثينيات القرن العشرين بقى صالحًا لكى يستعين به حمدان فى مطلع ثمانينيات القرن العشرين؟

وهل ما قال به كل منهما يصلح للاستشهاد اليوم فى 2025 فى كل ظل كل التغيرات العاصفة فى الداخل والخارج؟

أنظر مثلًا إلى اعتماد جمال حمدان على تفسير العقاد للعلاقة بين المصرى والسلطة، التى يقول فيها العقاد:

«المصرى اجتماعى من ناحية الأسرة وعراقة المعيشة الحضرية أو اجتماعى من ناحية انتظام العادات والعلاقات منذ أجيال مديدة على نظام الأسر والبيوت، وهذا هو أقوى ما يربطه بالمجتمع أو يربطه بالأمة والحياة القومية، وهو ارتباط أقوى فى نفسه جدًا من ارتباط النظام السياسى والمراسم الحكومية. فلم تكن الحكومة فى تلك الأزمان الطويلة لتمتزج بنفسه قط امتزاج الألفة والطواعية والمعاملة المشكورة. بل ربما كان صدوده عن الحكومة مما ضاعف اعتماده على الأسرة وحصر عواطفه الإنسانية فى علاقاته البيتية، لأنها ملجأ خفيض ومهرب أمين من القسوة والمظالم، وغاية ما يخامره من أمر الحكومة أنها  شىء يدارى ما استطاع له المداراة، ويستفاد من سطوته وجاهه ما تيسرت الفائدة، ولا بأس بإرضائها بالهدايا والمجاملات فى غير حفيظة ولا استكراه، ولا عجب فى هذا الشعور المبهم فى زمن كان الناس فيه يعبدون آلهة الشر ويتزلفون إليها بالصلوات والقرابين! فعلاقته بالحكومة على الأغلب الأعم هى علاقة عداوة مريبة أو مهادنة محتملة».

ثم يستدرك العقاد، قائلًا:

«لكن لا ينبغى أن يفهم من هذا أن المصرى ضعيف الاهتمام بالسياسة أو أنه مصدوف عن تتبعها واستطلاع أخبارها ومجرياتها، أو أنه قليل البصر بمداخلها ومخارجها، فإن الواقع قد كان على خلاف ذلك بل على نقيضه فى عصور كثيرة، والمشهور عن المصريين أنهم من أشد الأمم شغفًا بأحاديث الدول وعناية باستطلاع أحوال الحكومات، وإذا بدا على المصرى أحيانًا أنه ينقاد فى السياسة فليس معنى ذلك أنه لا يفهم. بل معناه أنه ينقاد لأن الطاعة أشبه بنظام الأسرة من جهة، ولأن أزمنة الركود الطويلة من جهة أخرى ليس من شأنها أن تبعث روح الابتداء والاقتحام، فالبقاء فى الصفوف أيسر عنده من التفرد باعتساف الطريق، وهو حتى فى ثورته يريد أن يرى الصفوف حوله ولا يريد أن يعتسف الطريق وحده».

عاطف معتمد الدكتور عاطف معتمد
التعليقات