كثُر الكلام في السنوات الأخيرة عن الثورة الصناعية الرابعة التي نشهدها الآن وعن أهمية أن نساهم فيها ولا نكون فقط مجرد متلقين لها. لكن الكثيرون لا يعلمون ما هي بالضبط تلك الثورة الصناعية الرابعة، وما هي الثورات الثلاث التي سبقتها، بل وما هو تعريف الثورة الصناعية أصلاً ولماذا نهتم بكل ذلك؟
أفضل تعريف للثورة الصناعية هو ما ذكره "كلاوس شواب" (Klaus Schwab) مؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي (World Economic Forum) في كتابه "الثورة الصناعية الرابعة". يقول شواب أن الثورة الصناعية هي ظهور تكنولوجيا جديدة وطرق مبتكرة لرؤية العالم من حولنا والتعامل معه مما يقود إلى تغييرعميق في البعدين الاقتصادي والإجتماعي.
طالما هناك تكنولوجيا تقود إلى تغيير إقتصادي وإجتماعي، فإن إهمالنا دراسة الثورات الصناعية يجعلنا تابعين لما يحدث في العالم ويجعلنا نُفاجأ بتغيرات عالمية لم نحسب لها حساباً.
قد يقول قائل: لماذا لا نركز على الثورة الصناعية الرابعة؟ فقد مضت الثورات الثلاث السابقة وإنتهى تأثيرها.
أولاً دراسة كل الثورات الصناعية يعطينا فكرة عن كيفية تشكلها ومدى تأثيرها في العالم وبذلك نستطيع أن نتنبأ بتأثير التكنولوجيات الجديدة على حياتنا وما إذا كانت ستقود إلى ثورة صناعية أخرى.
ثانياً لا تؤثر الثورات الصناعية في الدول بترتيب زمني معين. هناك مناطق في العالم مازالت تعيش الثورة الصناعية الثالثة ومناطق أخرى بدأت تعايش تأثيرات الثورة الرابعة بالتزامن مع الثورة الثالثة.
إذاً الثورات الصناعية الثلاث ليست مجرد تاريخ بل حاضر ومستقبل.
لكن ما هي تلك الثورات الأربع؟
في منصف القرن الثامن عشر حوالي سنة 1765 بدأ في بريطانيا استخدام المحركات البخارية ومنها بدأ استخدام الميكنة والتوسع في الصناعة وإنتقال بعض المجتمعات من الحياة الزراعية البسيطة المعتمدة على القوة البدنية والحيوانات إلى عصر التصنيع والقوة المعتمدة على الماكينات. الولايات المتحدة الأمريكية تلت بريطانيا في ذلك.
كان ذلك إيذاناً بحلول الثورة الصناعية الأولى وهي فجر عصر التصنيع والقوة البخارية.
هناك نقطة هامة لها علاقة بالتوقيت، التكنولوجيا لا تظهر فجأة وظهور تكنولوجيا متقدمة لا يعني تلقائيا بداية ثورة صناعية. بل يجب أن تكون التكنولوجيا قد وصلت لدرجة كفاءة عالية حتى تبدأ ثورة صناعية لها تأثير معتبر كما ذكرنا. ظهرت فكرة استخدام الطاقة البخارية منذ القرن الأول بعد الميلاد، ثم بدأت تظهر تصميمات بدائية لها في القرن السابع عشرعلى يد مخترعين مثل "توماس سافوري"، ثم ظهر أول تصميم لمحرك بخاري في بدايات القرن الثامن عشر على يد "توماس نيوكومن". لكن التحسين الذي أدخله "جيمس وات" هو ما جعل تلك التكنولوجيا تصل لدرجة من الكفاءة جعلتها أساس هذه الثورة الصناعية الأولى.
عندما نجد تكنولوجيا جديدة لا يجب أن نستبعد تأثيرها قبل أن نتسائل: إذا زادت كفاءة تلك التكنولوجيا بشدة ماذا سيكون تأثيرها في حياتنا؟
النصف الثاني من القرن التاسع عشر هو بداية الثورة الصناعية الثانية والتي زادت من قدرة التصنيع بشدة باستخدام العلوم ووصلت إلى ما نسمية بكثافة الإنتاج (mass production). الكيمياء أوصلنا إلى صناعة أسمدة أدت إلى زيادات كثيفة في المحاصيل الزراعية. المحركات البخارية تركت موقعها للمحركات التي تعمل بالنزين. الطاقة الكهربائية أدت إلى ظهور الإضاءة الكهربائة والإتصالات السلكية واللاسلكية (الراديو) ثم ظهور وسائل المواصلات مثل السيارات والطائرات. إنها ثورة العلوم الأساسية ونراها جلية حتى في الحروب، فالحرب العالمية الأولى إنتصرت فيها الكيمياء (البارود والقنابل)، أما الحرب العالمية الثانية فانتصرت فيها الفيزياء (القنابل الذرية). أصبح الناس ينتقلون من مكان إلى آخر بسهولة وتغيرت الطبيعة المجتمعية في دول كثيرة من مجتمعات زراعية إلى مجتمعات صناعية. في الولايات المتحدة الأمريكية مثلاُ كان 6% من السكان فقط يعيشون في المدن، إرتفعت تلك النسبة إلى 40% سنة 1900.
بدأت بشائر ظهور أجهزة الكمبيوتر في خمسينات القرن العشرين ثم تقدمت تلك التكنولوجيا حتى وصلنا إلى الثورة الصناعية الثالثة في مطلع ستينات القرن الماضي، وهي ثورة الرقمنة التي أدت إلى ظهور أجهزة الكمبيوتر فائقة السرعة والذكاء الإصطناعي وإرهاصات ثورة الاتصالات التي أوصلتنا إلى الإنترنت وكانت تلك هي الثورة الصناعية الثالثة.
بدأ القرن الواحد والعشرون بإمتزاج ثلاثة عناصر: البيولوجيا (بما فيها جسم الإنسان) والأشياء التي نستخدمها في حياتنا اليومية والرقمنة. وأدى ذلك إلى ما نعرفه باسم (Cyber Physical Systems) أو أنظمة الأشياء المتصلة وهي إلتحام وسائل الاتصالات وأجهزة الكمبيوتر بحياتنا وأجسامنا وعقلنا بشكل لم يشهده التاريخ من قبل.
أصبحنا نشهد أنواع متقدمة من الذكاء الإصطناعي وأصبحنا نتحكم في الجينات وأصبحنا نقرأ الإشارات التي يصدرها العقل ونحللها وأصبح العالم قرية صغيرة و توغل الكمبيوتر في كل جزء من حياتنا: في التليفون والتليفزيون والساعة والحذاء والملابس ... ومازلنا في بدايات الثورة الصناعية الرابعة.
سنتكلم في مقالات قادمة إن شاء الله عن تأثير تلك الثورات في حياتنا وعن العوامل التي تعظم هذا التأثير وعن محاسن ومساوئ تلك الثورات الصناعية على الأعمال والحكومات والأفراد.