نشرت جريدة الرياض السعودية مقالا للكاتبة «مَلحة عبدالله» وجاء فيه ما يلى:
من خلال متابعتنا للدراما فى سوقها المزدحمة على مستوى الدراما التليفزيونية والمسرحية والسينمائية، كانت الملاحظة الجديرة بالاهتمام هى ندرة النجم الكوميدى فى الدراما، سواء كان على مستوى الكتابة، أو على مستوى التمثيل أو الإخراج، وتلك كارثة درامية يجب الالتفات إليها.
ومن المعروف أن كتابة أو تمثيل الكوميديا من أصعب الفنون الدرامية على الإطلاق، ولذا أصبحت سمة الاستسهال لسد حاجات السوق هى المعول الرئيسى فى هدم فن الكوميديا على مستوييها العربى والمحلى.
وبطبيعة الحال هناك فارق كبير بين الضحك والكوميديا؛ فالضحك غريزة إنسانية فطر عليها الإنسان، نتاج تفاعلات كيميائة فيزيائية. وعلى سبيل المثال (الزغزغة) أو النكتة، أو غير ذلك من المثيرات الفسيولوجية التى تنتج الضحك، أو لعلها مقرونة بغريزة الانتصار فى وضع المقارنة أو ما يسمى نظرية الإحلالية عن شخص وقع فى مقلب تتعالى ذواتنا عنه. فالضحك يختلف تمام الاختلاف عن فن صناعة الكوميديا، ولا يتسع المقام لذكر مسببات الضحك وشئونه.
أما فن صناعة الكوميديا فهو ما نراه أصبح من الندرة إتقانه، ذلك أن فنون الكتابة فيه صعبة المنال، فلها تاريخها ولها حرفيتها أيضا، ولذلك أصبح جل فن الكوميديا هو استدرار للضحك بلا حرفية أو تقنية، بدءا من التأليف، مرورا بالممثل، وانتهاء بالكاتب نفسه.
لم تكن كتابة الكوميديا معهودة لدى كتاب اليونان العظام، الذين احترفوا التراجيديا أمثال يوربيدس أو سوفوكليس أو غيرهما حتى ظهرت لنا تلك الملهاة الهزلية لأرستوفان عام 405 ق.م. (الضفادع). تلك الملهاة الساخرة اللاذعة، إلا أنها لم تنشر كفن كوميدى نتاج دخول تاريخ الدراما فى حقبة العصور الوسطى المظلمة والمجافية للمسرح وللضحك نفسه، كما أن العرب لم يعرفوا فن الكوميديا نتاج ما أعزوه العرب إلى أن «متى بن يونس» ــ 342هـ/ 950م المتوفى عام 1009م ــ حين ترجم لأرسطو أطلق عليها اسم الهجاء، ولربما ذلك يرجع إلى ما تحويه من سخرية لاذعة. لكن ظهر لنا ما يسمى الكوميديا الرومانسية على يد جون ليلى (1554ــ1606) وروبرت جرين (1560ــ1592) وجون بيل (1565ــ1591) وجون هيون وغيرهم فى تلك الحقبة من تاريخ الدراما بكتابات تستخدم فيها الحبكة الثنائية، وأطلق عليها الكوميديا الأسرية، ذلك أنها تستخدم المحيط الأسرى فى حبكاتها وتناولاتها. وكانت هذه البذرة الأولى التى استلهم منها شكسبير مسرحياته، خاصة التى استخدمت فيها الأساطير والحكايات الشعبية، وأعتقد أن ذلك كان هربا من الرقابة آنذاك؛ كون أصحاب الفرق المسرحية قد زج بهم فى السجون جراء أعمال مسرحية نقدية لاذعة. وعلى سبيل المثال، مسرحية حلم ليلة صيف ومسرحية الليلة الثانية عشرة للأخير والمستلهمتان من مسرحية (القس بيكون والقس باجي) التى كتبها روبرت جرين.
وهذا وإن كانت التراجيديا تعالج حياة الأبطال العظام، فإن الكوميديا تعالج حياة البشر العاديين، وهنا يبدو انسياق النقاد وراء هذه الطبقة، رغم أن أرستوفان قد عالج الواقع بشكل مريح فى مسرحية الفرسان وليسترانى، إلا أن هذا الانقلاب فى مفهوم الكوميديا جاء لنفوذ الطبقات سالفة الذكر، وتأثيرهم فى مسار الدراما وفلسفتها، وكان ذلك يعد مهربا للكتاب أمثال شكسبير وجون ليلى وغيرهما من ملاحقة الرقابة للكوميديات اللاذعة والساخرة، حتى جاءت إليزابيث تلك الملكة التى لها جذور عالقة فى الطبقات الشعبية من ناحية الأم، وكانت خير معين لكتاب ومخرجى الكوميديا، ما ظهر ما يسمى كوميديا المدينة، التى تتعرض لحياة المدينة ونقدها والتعرض لمشكلاتها بحرية محمية من الملكة إليزابيث أوائل القرن التاسع عشر.
إن هذا السرد التاريخى الموجز لتاريخ فن الكوميديا لم يكن خارج نطاق التناول بقدر ما هو مهم وجلي؛ ليبين أهمية فن الكوميديا فى حياة الشعوب وفى تشريح البنية الاجتماعية إن أغفل التاريخ بعض جوانبها، فالدراما هى حامل الذكر الذى لا يكذب.
ولهذا؛ ومع هذه السباحة الموجزة لأهمية فن الكوميديا، نقف حسرات على ما تضج به قنواتنا من مسرح أو سينما أو أعمال تليفزيونية دون ركائز قوية تتناول واقعنا وتستند إليه لتترك للتاريخ صورة شاهدة عليه، وتترك لنا بسمة ممتعة فى زمن شح فيه الضحك، واتكأت الظروف الواقعية والمعيشية على كواهل المتفرجين، فغلفتها بطبقة تؤكسد كل مجالات الضحك، بينما يجب أن نؤهل نحن أنفسنا للضحك لكى يتأتى لنا ذلك. يقول (برجسون) فى كتابه «الضحك» عن هذا الشأن: «جربوا اللحظة، الاهتمام بكل ما يقال، وبكل ما يجرى، تصرفوا بالخيال، مع أولئك الذين يعملون، تحسسوا مع أولئك الذين يتحسسون، وأعطوا أخيرا لودكم أوسع مداه، كما لو كانت هناك عصا سحرية سترون الأشياء الأكثر خفة تتخذ وزنا.. ابتعدوا بأنفسكم.. شاهدوا الحياة كمتفرج لا مبال، كثير من المآسى تتحول إلى كوميديا».